عاش اللبنانيون في المدة الأخيرة أجواء خوف على "التفاهم الوطني" الذي سمح بملء الفراغ الرئاسي وإن بعد سنتين وخمسة أشهر، وبتأليف حكومة "جامعة"، وبعودة الحياة إلى مجلس النواب وتحديداً إلى دوريه التشريعي والرقابي. فالزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط أعلن وبصراحة وحزم وبهدوء ورغبة في الحلول وليس في الصدام تمسّكه بقانون انتخاب "الستّين"، ورفضه استبدال الأكثرية بالنسبية التي تقول، وربما عن غير اقتناع، غالبيّة السياسيّين في البلاد أن "فيها الشفاء" من مرض نقص التمثيل النيابي المسيحي كما تمثيل المكوّنات الأخرى. ووزير الداخليّة نهاد المشنوق دعا رئيس الجمهورية ميشال عون إلى إعادة النظر في "مواقفه الانتخابيّة" المُعلنة ولكن في صياغة سياسيّة راقية وهادفة إلى التفاهم وليس إلى "كسر مزراب العين". والرئيس عون من جهته "علّا السقف" برفضه التمديد لمجلس النواب وإجراء الانتخابات وفقاً لقانون الستّين، وبإعلانه تفضيل الفراغ النيابي على الأمرين المذكورين، وبتلويحه بإجراء استفتاء عام على الموضوع الانتخابي برمّته رغم عدم دستوريّة ذلك في رأي غالبيّة الطبقة السياسية في لبنان. أمّا رئيس الحكومة سعد الحريري فإن مجرّد إعلان المشنوق موقفه المشار إليه أعلاه يوحي أنه لا يشعر بالارتياح إلى مسار الأمور، ويعرف أن جمهوره المسلم السُنّي لا يشعر بالارتياح بدوره جرّاء ما يعتبره كثيرون بداية مخالفة لاتفاق الطائف وخصوصاً في ميدان صلاحيّات الرئاسات الثلاث. طبعاً لا يمكن هنا إغفال ذكر عدم ارتياح رئيس مجلس النواب نبيه برّي لمواقف سيد قصر بعبدا وخصوصاً التي منها فضّلت الفراغ النيابي على الانتخابات في ظروف مُحدّدة. وهو قد ردّ على ذلك مباشرة وبالواسطة بقوله "أن لا فراغ نيابيّاً بحكم نظرية استمرار المرفق العام". طبعاً ساهمت الأزمة الصحيّة الطارئة التي تعرّض لها والتي انتهت على خير جراحيّاً مع جهود الخيّرين في إبقاء سقف التباين أو الخلاف المذكور محدوداً.
ويبدو الآن أن اللبنانيّين يعيشون أجواء أكثر ارتياحاً من السابق. فالأطراف كلّهم تقريباً يؤكّدون، وبعد تشاورهم على أكثر من مستوى، أن قانوناً للانتخاب سيبصر النور أواخر شهر شباط الجاري. كما أن وزير الداخليّة "مدّد" المهلة أمام الدخول في المحظور وهو عدم دعوة اللبنانيّين إلى انتخاب مجلس نواب جديد، بحيث أصبحت في آذار المقبل (أواخره ربما) وليس في 21 شباط الجاري كما كان يؤكّد والآخرون معه. لكنّهم في الوقت نفسه لا يزال يداخلهم الشك نتيجة الخيبات السابقة. ولذلك فإنّهم يتساءلون إذا كانوا سيرون قانون انتخاب وانتخابات تجري على أساسه قريباً، أو بدء فراغ نيابي يواكبه تصاعد في خلاف المؤسّسات الدستوريّة والطوائف والمذاهب على "الصلاحيّات" واتهامات بتجاوزها.
هل يمكن طمأنة هؤلاء؟
لا أحد يستطيع توفير الطمأنينة التامّة لهم، لكن الأمل في ذلك لا يزال كبيراً في رأي العارفين المُتابعين تطوّرات الشأن الانتخابي عند كل الأطراف. علماً أن الجو العام المحيط بالأخير لا يزال غير مريح خلافاً للمُعلَن. فمن جهة يعتبر البعض أن رئيس الجمهوريّة عون يمتلك صلاحيّات دستوريّة وهو يمارسها حاليّاً، ولذلك لا يجوز التعرّض له كلّما أعلن موقفاً باتّهامه بمخالفة الدستور واتفاق الطائف. فهو يريد أن يترك بصمته الرئاسيّة وهذا من حقّه. إلّا أن البعض نفسه يعترف أن الرئيس يطرح أحياناً أموراً قد تكون غير دستوريّة أو قد يبالغ في مواقف فـ"يُنقّز" الكثيرين. فتفضيل "الفراغ النيابي" على "الستّين" أو التمديد مثلاً ثم التهديد بالشارع "نقّز" برّي لأنه يعني أن "مؤسّسته" ستصبح غير قائمة وغير عاملة وأن عليه أن يبقى في بيته مكتفياً بممارسة دوره السياسي زعيماً لـ"حركة أمل" وشريكاً لـ"حزب الله" في "الثنائيّة الشيعيّة". كما أن إجراء الانتخابات وفقاً للدستور ولقانون "الستّين"، جرّاء تعذّر التوافق على قانون جديد رغم رفض رئيس الجمهورية وذلك بالاستناد إلى مادة تجعل مرسوم دعوة الهيئات الناخبة نافذاً إذا لم يوقّعه بعد مهلة مُحدّدة، كما أن ذلك يعتبر كسراً لإرادته وله. وذلك مرفوض من المسيحيّين ومن "الشعوب" اللبنانيّة الأخرى على الأرجح، ومرفوض تحديداً من حليفه "حزب الله" صاحب الدور الأقوى في البلاد اليوم خلافاً لاقتناعات الكثيرين والقابل للنمو أكثر مستقبلاً. وينبع الرفض من تمثيله غالبيّة المسيحيّين، ومن رفض "الحزب" وإيران حليفة الإثنين أي إضعاف له، وأخيراً من أن وضع سوريا صار جيّداً قياساً إلى السابق بعد التطوّرات العسكريّة المعروفة التي جرت فيها.
هل للرفض المذكور أسباب أخرى؟