هل نشهد تحولاً إيجابياً في موقف إيران تجاه الدول العربية، في ضوء التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين الإيرانيين، وأخصُّهم بالذكر وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي دعا السعودية إلى التعاون لحل المشكلة في البحرين واليمن وسواها من دول المنطقة؟
قراءتي لمثل هذه التصريحات تقول إنها أتت نتيجة لما أسفر عنه الصراع على الأرض السورية: تدخّل روسيا لإنقاذ نظام الأسد الذي كان آيلاً للسقوط كما أكد أخيراً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. بذلك أصبحت روسيا اللاعب الأول على المسرح السوري. وبالطبع فإن هذا المعطى الجديد يعني فشل إيران الذريع، بعد خمس سنوات، من دعمها النظام السوري بكل أنواع الأسلحة المالية والعسكرية، الأيديولوجية والمليشيوية.
كذلك أخفقت إيران على الساحة العراقية، وبعكس ما يظن. 
فوصايتها على العراق أفضت إلى انهزام الجيش العراقي المدجج أمام تنظيم «داعش». وإذا كان هذا الجيش يستعيد قوته الآن في محاربة «داعش»، فليس الفضل في ذلك للجنرال قاسم سليماني ولا للحشد الشعبي، بل للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة التي تستخدم أسطولها الجوي لقصف معسكرات «داعش» وقواعده. وهذا التدخّل العسكري السافر يشهد على أن دعوى أميركا بأنها تريد سحب قواتها العاملة في الخارج وعدم التدخُّل في حروب الآخرين، هي دعوى لا صدقية لها، كما تشهد بأن سياسة أوباما لم تكن تصدر عن رؤية استراتيجية متماسكة أو ناجحة، بل كانت في منتهى العجز والضعف والتخبُّط، إذ أفضت إلى تراجع أميركا أمام روسيا، وإلى انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
أما في لبنان، فلم يكن وضع إيران أفضل، لأن انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية لم يكن ثمرة اتفاق إيراني- سعودي، كما قرأ الحدث وزير الخارجية الإيراني، بل ثمرة لاتفاق لبناني ثلاثي: بين التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون، وتيار المستقبل بقيادة سعد الحريري، وحزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع. نحن ننتقل الآن إلى مرحلة جديدة أصبح فيها الروس هم أصحاب الكلمة العليا، ولذا لن يقبلوا بأن تفعل إيران ما تشاء، لا في سورية ولا في لبنان. ولا غرابة فمن يخسر في سورية يخسر في لبنان أياً كان اللاعب. وأعتقد أن «حزب الله» سوف يأخذ هذا التطور في الاعتبار، إذا شاء استخلاص الدرس هذه المرة بتغليب مصلحة لبنان على ما عداها.
أما بالنسبة إلى اليمن، فلا شك في أن إيران سجلت هنا أيضاً فشلها في تحقيق هدفها: إقامة حكم تابع لها بقيادة الزيديين الحوثيين الذين انخرطوا في مشروعها وأعلنوا ولاءهم لها. فالانقلابيون ينتقلون من خسارة إلى خسارة، مما جعل المندوب الدولي، إسماعيل ولد الشيخ، يكف عن إمساك العصا من الوسط، لكي يطلب من الحوثيين تسليم سلاحهم.
هذا الإخفاق في غير ساحة، هو الذي يفسر دعوة ظريف السعودية للتعاون من أجـــل حـل الأزمة اليمنية. بالطبع، فإن النظام الإيراني لا تنقصه الحجج الواهية لتبرير فشله، بادعائه أنه يشن حرباً استباقية على الأعداء في الخارج قبل وصولهم إلى الداخل. هذه القاعدة الذهبية، والأحرى القول الاستراتيجية الجهنمية تستخدمها عادة الأنظمة الشمولية لتأبيد حكمها وتعزيز قبضتها على العباد والبلاد. وأعتقد أن مثل هذه الذريعة باتت مفضوحة، ولم تعد تنطلي إلا على جاهل أو مغفل أو متعصب.
وهكذا فإن إيران تجد نفسها، بعد عقود في موقع الخاسر. الأمر الذي دفع جماعة التيار الإصلاحي إلى التدخل لإنقاذ النظام، كما تدخلوا في مسألة الملف النووي، وأجبروا المرشد على توقيع الاتفاق، حتى لا يتجرع كأس السم كسلفه الخميني. وما أرجحه أن الإصلاحيين بدعوتهم السعودية إلى اعتماد نهج التقارب والتعاون، إنما يبحثون عن حليف لمواجهة اللاعبين الكبيرين: بوتين روسيا وترامب أميركا، خصوصاً أن السعودية هي اللاعب العربي الأكثر تأثيراً في الساحة العربية.
إن المحك في صدقية إيران هو اليمن، فهل ستتنازل في ساحة هذا البلد، بعد تراجعها في بقية الساحات؟ والتنازل يعني هنا توقفها عن دعم الحوثيين وجماعة علي عبدالله صالح، بحيث يتخلون عن سلاحهم، وينخرطون في العملية السياسية، في ظل الشرعية الدستورية، شأنهم بذلك شأن بقية مكونات المجتمع اليمني الطائفية والسياسية.
هل النظام الإيراني مؤهل لمثل هذا التنازل؟ من طبيعة الأنظمة الشمولية أنها لا تتنازل أو تقبل بالتسوية إلا بعد هزيمتها أو إخفاقها. من هنا فإن دعوة إيران السعودية إلى القبول بنهج التعاون بما يؤدي إلى إعطائها دوراً تلعبه وإلى ممارسة حضورها الفعال على الساحة الإقليمية، هو كلام ساذج وخادع.
فهو ساذج ككلام وزير الخارجية الإيراني عندما يقول إن إيران تدافع عن إخوانها من السنة العرب، وهو كلام لا يقنع أحداً لأن إيران إنما تستهدف العرب بالدرجة الأولى، سنّةً وشيعةً، بتأليبهم بعضهم ضد بعض. حتى الرئيس الأميركي السابق أوباما، وهو المعروف بهواه الإيراني، اعترف بأن إيران تمارس دوراً «تخريبياً» في المنطقة، أي في العالم العربي.
وهو كلام خادع من غير وجه:
أولاً، لأن من تراجع دوره على الساحة السورية أمام روسيا، ليس مؤهلاً لتوزيع الأدوار على الآخرين.
ثانياً، لأن من بدأ المواجهة بين الطرفين، هي إيران وليس الدول العربية.
ثالثاً، لو كانت إيران قوية ومنتصرة لما تراجعت أو تنازلت أمام السعودية وبقية دول الخليج.
وأخيراً، لأن سياسة النظام الإيراني قائمة منذ البداية على عدم الاعتراف بالدول العربية.
والشاهد يقدّمه كلام ظريف الذي يتحدث عن اليمن والبحرين وسورية، بوصفها من شعوب المنطقة، فيما هي بلدان عربية. ولكن إيران، وكما بات معروفاً عنها، لا تعترف بذلك، إذ هي تسمّي العالم العربي منطقة الشرق الأوسط التي تعتبرها منطقتها. ولذا نجد أن معظم الساسة الإيرانيين يمارسون الاستبعاد عندما يتحدثون عن الدول العربية. ومثال ذلك أن الرئيس حسن روحاني. عندما استقبل وزير الخارجية الكويتي، الشيخ صباح الخالد الحمد الصباح، قد تحدث عن تعاون إيران مع «الدول الإسلامية المجاورة»، هكذا باستبعاد الصفة العربية. وحسناً فعل الوزير الكويتي، إذ أكد في حديثه مع الإيرانيين على الصفة العربية لدول الخليج باستخدامه عبارة: دول الخليج العربية.
هل الدول العربية هي مجتمعات متجانسة وموحّدة؟ بالطبع لا لأن هناك قوميات أخرى داخل كل بلد. ولكن ما يوجد منها في سورية هو أقل بكثير مما يوجد في إيران. وما يوجد في العراق ليس أكثر مما يوجــد في إيران. وفي النهاية لا يوجد بلد متجانس أو موحد، أقله في المستوى السيـــاسي، إلا على سبيل الغلبة أو القهر أو الظلم. ففي كل اجتماع بشري هناك دوماً آخر، سواء في الداخل أو في الخارج. والرهان هو التعامل معه بمنطق تعددي، تداولــي، ديموقراطي، لا بمنطق الاستبعاد أو الاستئصال، كما تتعامل إيران مــع كل أشكال المعارضة السياسية والإتنيــة. ومن يستبعد المختلف في الداخل، هل هو مؤهل لكي يقيم علاقة مع الآخر في الخارج، على سبيل الصداقة والتعاون؟
بداية التعاون بين إيران والدول العربية تفترض اعتراف إيران بأن البحرين واليمن وسورية هي بلدان عربية تجمعها ببقية الدول العربية، مشرقاً ومغرباً، روابط اللغة والثقــــافة والمصير المشترك. وهذا يقتضـــــي كسر منطق الكره للعربي والخوف من الاسم العربي الذي هو ثمرة سيئة للصراعات والأحقاد القديمة بين العرب والفرس. فالاعتراف هو الذي يفتح صفحة جديدة تُبنى فيها العلاقة بين الجانبين على أساس الاحترام والثقة المتبادلة.
فهل أدرك الإصلاحيون، على رغم كل خطاب الاستعلاء والغطرسة، أن التطورات في منطقة المشرق العربي وفي العالم لا تسير لمصلحتهم؟
المشروع الإيراني بلغ ذروته في عهد أوباما. لكن زمن أوباما ولّى، لتنفتح حقبة جديدة لها إستراتيجيتها وأقطابها ولاعبوها: بوتين، ترامب، جيبنغ، فهل نشهد بداية النهاية لمشروع إيران التوسعي في العالم العربي؟
أياً يكن، فإن تراجع إيران، التي فشل نموذجها في الإنماء والبناء، والتي تسجل خسارتها في غير ساحة عربية، ستكون له انعكاساته السياسية في الداخل، خصوصاً في أوساط المعارضة والأكثرية الصامتة التي تتطلع إلى التحرر من كابوس المرشد ونير الجنرال، فيما هي ترى بغضب وحسرة كيف يهدر نظام الملالي والعسكر ثروات الشعب وكيف تسفك دماء أبنائه من غير طائل.
مشكلة إيران تكمن في كونها تحسب المشكلة هي الحل. فهل تعود إلى صوابها بعد كل هذه العقود من هدر الإمكانات الوجودية والفرص الحضارية، بحيث تتخلى عن منطق التدخل و «التشبيح» الاستراتيجي، لكي تنصرف إلى صنع نفسها ومستقبلها، باستثمار ما تملكه من الموارد الهائلة المادية والرمزية، الطبيعية والثقافية. وهي عندما تنجح في ابتكار نموذج بنّاء وفعال، في ما يخص استحقاقات التنمية والإدارة والديموقراطية والحياة المريحة، في مواجهة آفات الفقر والاستبداد والفساد والتلوث، تصبح محط النظر، وعندها تأتي إليها الدول الأخرى، عربية أو غير عربية، لكي تفيد من خبراتها وتنسج معها علاقات على أساس التعاون والتبادل أو التكامل.
 
علي حرب