عندما كانت اللجان النيابية تعكف منذ أكثر من خمس سنوات على دراسة سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، والتي لم تر النور بسبب تلاعبات الطبقة السياسية واستهتارها بمصالح المواطنين والدولة معاً، تفتّقت أريحية الرئيس بري وعبقريته، فطلب من النواب حذف الزيادات المقترحة على تعويضاتهم من بنود مشروع القانون، ربما لعلمه بأنّ هذا القانون لن يمُرّ أو يُقرّ، فلا بأس إذن من تربيح جميلة للمواطنين بإظهار نوعٍ من التّعفف والزهد والبراءة لدى مُشرّعي الأمة
 

بعد أن انجلت معارك السلسلة عن جعجعة بلا طحين، وطال صبر النواب على جمود تعويضاتهم (والتي هي ضخمة أصلاً) فعمدوا إلى زيادتها، وإعطاء ورثة النائب تعويضاً كاملاً بدل ال ٧٥ بالمائة المعمول بها حالياً.
أولاً: النيابة ليست وظيفة، بل صفة تمثيلية...
في تاريخ المجلس النيابي اللبناني ،قبل الحرب الأهلية وأثنائها، لم تُلحظ معاشات تقاعدية للنواب، ذلك أنّ النيابة ليست وظيفة تستلزم معاشاً تقاعدياً، بل هي صفة تمثيلية يُقدم عليها أحد المواطنين، فإذا فاز في الانتخابات البرلمانية، يُعطى عندها تعويضاً مناسباً أثناء مدة ولايته، حتى إذا انقضت هذه الولاية يعود النائب-المواطن لمزاولة عمله السابق، كالمحاماة والطبابة وغيرها من المهن الحرة، أو إدارة أملاكه إذا كان ملّاكاً، أو إدارة مؤسساته إذا كان من رجال الأعمال، وعندما لاحظ البعض في سبعينيات القرن الماضي أنّ أحد رؤساء الوزراء السابقين أمضى أواخر حياته في دارٍ للعجزة والمسنّين ، تقدّم الراحل ريمون إدّه باقتراح يقضي بضرورة إعطاء تعويض لمن سبق له وشغل منصب رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزارة أو المجلس النيابي بناءً للطلب (أي أن يتضمن الطلب بيان حالة طالب التعويض المالية).

إقرأ ايضًا: أريحية لافروف اتجاه أميركا، ارحموا عزيز قومٍ ذلّ.

أمّا اليوم، فالمواطن اللبناني يدفع تعويضات مالية خيالية لنواب سابقين خدموا أربع سنوات، أو ثماني سنوات، تعويضات شهرية تفوق ما يتقاضاه بأضعاف موظفو الفئة الأولى وهم في الخدمة، مع خدمة استشفاء من الدرجة الأولى، وقد يملك النائب السابق في غالب الأحيان مجمّعاً تربوياً يدرُّ الملايين، أو يُعتبر من كبار الملاكين، أو يدير مكتب محاماة، أو يرأس مجلس إدارة شركة تجارية أو استثمارية أو أكثر، في حين لا يحقّ لأي موظف بالحصول على معاش تقاعدي قبل مرور عشرين سنة خدمة له على الأقل، وفي كل الحالات لا يتقاضى الموظف معاشاً تقاعدياً كاملاً، في حين لحظت الزيادة الجديدة للنواب تعويضاً كاملاً لورثته، ومن عنده يُعطى ويُزاد، ومن يتوهم أنّه له يُؤخذ منه وفق تعاليم الإنجيل.

إقرأ أيضًا: التمديد في المجلس الشيعي، ما خلّفهُ السيدان الصدر وفضل الله
ثانياً: الفحش بعد الفساد...
بعد أن اعتاد أقطاب السياسة في لبنان وأتباعهم على ممارسة الفساد بكافة تنويعاته، حتى أصبح أمرا ملازماً للحياة السياسية والإدارية في لبنان، هاهم يرتقون إلى مرتبة جديدة: مرتبة الفحش، والغريب أنّهم مُصرّون على نيلها بامتياز، فما هو السّرُّ الخفي واللاواعي لسلوك هذه الطبقة السياسية؟ هل هو مُعاداة خفية للتّقشّف المسيحي والزهد الإسلامي، ومثالية أفلاطون مثلاً؟ أم هي ضغينة اتجاه هذا الشعب المستكين الذي لم يعامل هذه الطبقة إلاّ ب"الحُسنى" ؟ أم هو ذوق فاسد يستلذُّ الأشياء الغربية والتناقضات المحزنة؟ أم هو إيمانٌ مُسبق بعبثية الوجود والسياسة؟ أم هو شيءٌ من هذا كله، من الخسّة ،من المرارة، من معاداة القيم الدينية السامية، والحاجة إلى الابتهاج بآلام الناس ومعاناتهم، من حُبّ الغطرسة وصولاً إلى مرتبة الفحش، التي لا تعلوها مرتبة، مع تمنياتنا بأن لا يكون هؤلاء النواب اللبنانيين على هذه الصورة، تمنياتنا لهم وقد ملكوا أمورنا، وأطبقوا على رقابنا، أن يكونوا رجالاً أنوفين يعرفون كيف يمسكون بزمام قلوبهم ومعاناتهم ويضحون برغباتهم من أجل الحقيقة، الحقيقة اللاذعة والبسيطة، حقيقة البذخ الذي يرتعون فيه، والبؤس الذي يعانيه المواطنون المسالمون ،والذين "يُحسنون" دفع الضرائب والخوات لتأمين كلفة الفساد المزمن والفحش الطارئ.