دخل الرئيس الاميركي العاقل والرصين باراك أوباما التاريخ، ومعه زوجته المثقفة والرقيقة والانيقة ميشال، بواحد من أعلى معدلات الشعبية التي ينالها رئيس في نهاية ولايته. بعض من نسبة الستين بالمئة التي نالها أوباما، والتي لم يتجاوزها من الرؤساء السابقين سوى رونالد ريغان وبيل كلينتون، وبعض من الحب الذي نالته السيدة الاولى، كان مصدرهما الاحتجاج وربما الازدراء لخليفته دونالد ترامب وزوجته ميلانيا، وما يمثلانه من فضيحة في السياسة وفي الثقافة وفي الاجتماع الاميركي.
غالبية الثلثين التي تودع أوباما اليوم بأسف صادق وأسى عميق، وتتحسر على زوجته ميشال المكتشفة حديثاً في دفاعها عن حقوق المرأة والطفل وعن التعدد والتنوع الاميركي رداً على بذاءات ترامب وفريقه.. تمزج ما بين الفخر بانها كانت قادرة يوماً على تخطي المسألة العرقية، وما بين شعورها بالحرج إزاء ما يجسده الرئيس الجديد شبه الأمي، والسيدة حرمه المثيرة للغرائز بماضيها وصورها التي لا تنسى.
الهوة شاسعة بين الرجلين، بين الزوجتين، بين العائلتين.. بين العهدين: إنحطاط شديد على جميع المستويات، عدا السياسة. لم يصل ترامب الى السلطة بإنقلاب، ولم يأت 62 مليون أميركي صوتوا له من الفراغ. المعيار الثقافي ليس كافياً للحكم على أي سلطة، في كونها ممثلة لشرائح متعلمة واعية ناضجة، او ممثلة لشرائح جاهلة منغلقة متعصبة. الديموقراطية لا تحتمل مثل هذا الفرز.. وإن كان الخلل في ممارستها كبير جداً في أميركا بالذات، أكثر من أي بلد ديموقراطي آخر في العالم.
في السياسة، ثمة خيط رفيع يربط بين العهدين. جاء أوباما الى السلطة بتفويض شعبي واسع لكي ينهي مغامرات اميركا الخارجية الحمقاء والمكلفة، ولكي يعيد بناء أميركا من الداخل. وهو ما فعله الى حد بعيد. كانت حساسيته الاجتماعية عالية جداً ، كان إهتمامه بالطبقة الوسطى وشريحتها الدنيا مميزاً لا سيما على صعيد الصحة او التعليم. لكن ذلك لم يحل المشكلة، بل أثار حفيظة الاميركيين البيض الذين يفقدون غالبيتهم، وأشعل غضبهم من الاقليات ومكتسباتها الاخيرة.
الآن جاء دور هذه "الاقلية" البيضاء لاستعادة السلطة. من صناديق الاقتراع صدر القرار: لا عودة طبعا الى المغامرات الخارجية، ولا موافقة على المقاربات الداخلية. تم تفويض الرجل الثري بان يحيي حلم الثراء الاميركي الدفين ويوسع رواده البيض، على حساب المؤسسة التقليدية الحاكمة، ورموزها البالية، وعلى حساب الاقليات الناهضة وقياداتها المنافسة.
إنه شكل من أشكال التناوب على السلطة، لا يرسي الاسس الديموقراطية فحسب، بل يستكمل في الجوهر مسيرة إعادة بناء الدولة الاميركية، بالقليل من الايديولوجيا المخادعة والكثير من مؤشرات البورصة الدقيقة. لم يكن أوباما خارج هذا السياق ، ولن يكون ترامب معاكساً له. ثمة قوى إنتاج داخلية فرضت مثل هذا القرار، وهي لا تقتصر على القطاع العقاري الذي ينتمي اليه ترامب(والذي ارتفعت أسهمه في الاونة الاخيرة) ولا على طبقة كبار الاغنياء الذين يمثلون 1 بالمئة من الاميركيين، والذين بات معظمهم وزراء في إدارته.
إنتخب ترامب ليكون رئيس مجلس إدارة "الشركة الاميركية المتحدة" التي كان صغار المساهمين فيها يتولون إدارتها في السنوات الثماني الماضية. هكذا وبكل بساطة. وهو معني فقط بأن يرفع رأس المال وسعر الأسهم وزيادة الانتاج وغزو الاسواق الخارجية بالسلع الاميركية المنتجة على الارض الاميركية. وعلى هذا الاساس أعلن ان الصين هي العدو الاول للشركة، وجزم بأن روسيا ليست تحدياً جدياً ، وحسم بان الاتحاد الاوروبي منافس فعلي، وصنف دول الخليج العربي بأنها بيوت للمال ليس إلا، ورفض تسليم إيران ما يعادل حمولة طائرة من الدولارات(حسب تعبيره الحرفي) مقابل الاتفاق النووي.
خطواته الاولى لا تخطىء. ما فعله مع شركات بوينغ  وماكدونال دوغلاس وكاريير الاميركية، كانت بمثابة إنذار للكثير من الشركات الصينية والاوروبية الكبرى التي تغزو الاسواق الاميركية بمنتجاتها المصنعة في بلادها او في المكسيك، حيث يعاد النظر الان بالكثير من الاستثمارات الخارجية، بعدما هدد ترامب بفرض ضريبة حدودية مرتفعة على الاستيراد، ما يقوض اسس التجارة الحرة في العالم ويفرض إجراءات حماية أميركية لم يسبق لها مثيل.
لا مفاجآت مع رئيس"الشركة الاميركية المتحدة":حرب عالمية تجارية طاحنة. معارك مالية قاسية، يمكن من خلالها فقط ان يتحدد مستقبل دول مشتعلة مثل سوريا واليمن وليبيا، ويمكن أن يؤديي الى إضطراب دول أخرى، لن تكون قادرة على فهم إستيعاب آليات النظام العالمي الجديد الذي يرسم ترامب معالمه الجنونية..والذي يستدعي توجيه تحية الوداع الى أوباما وزوجته.