محطات متعدّدة تدرّج فيها الدكتور سمير جعجع ومن خلاله «القوات اللبنانية»، تحمل على التوقف عندها والإبحار فيها؛تجلّت أولى المحطات في الانتقال من ضفة الخصومة والعداء لـ«التيار الوطني الحر» الى ضفة التفاهم والوئام، وصولاً الى تبنّي ترشيح الرئيس ميشال عون لرئاسة الجمهورية.

والثانية في إعطاء «إجازة» للمنطق الفكري والسياسي الذي قامت عليه «القوات» بأن تكون في المعسكر المواجِه لـ«حزب الله»، ووقف إطلاق النار على الحزب الذي كان يحصل عند أبسط أمر سواءٌ حول السلاح أو حول مشاركته في الحرب السورية، والانتقال الى اعتماد ليونة ظاهرة في الخطاب تجاه الحزب، ومحاولة فتح قنوات حوار معه، في وقت دخلت «القوات» في اشتباك سياسي عنيف وعصبي مع حزب الكتائب.

والثالثة في النزول الملحوظ عن منصّة الهجوم على إيران، واستبدال الخطاب الرافض لدعم الجيش اللبناني بالسلاح الإيراني، بخطاب عدم ممانعة، واقتران ذلك بمبادرة انفتاح على الجمهورية الإسلامية وإيفاد مَن يمثل «القوات» الى السفارة الإيرانية للتعزية بالشيخ رفسنجاني.

والرابعة في الترويج المتعمَّد، ومن طرف واحد، وقبل أن ترسو الأمور على بقاء قانون الستين أو قانون جديد، لتحالف رباعي عنوانه سياسي إنتخابي، يضمّ «القوات» ومعها «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي.

لـ«القوات» أسبابها وغايتها ودوافعها في أيّ من المحطات المذكورة وغيرها، وقد يجد لها القواتيون أو مؤيّدو «القوات» الظروفَ والمبرّرات وكلّ ما قد يجعلها قابلة للتفهّم لدى القوى الأخرى.

ولكن عندما يُسأل أحد المسؤولين عمّا إذا كان يستخلص شيئاً من هذه المحطات، يبادر فوراً الى رسم ابتسامة معبّرة، ثمّ يحكّ قليلاً في مؤخرة رأسه ويقول: «هذه المحطات تذكّرني بـ«فرس السلطان»... وفهمكم كفاية».

تلاقي كلام المسؤول المذكور «قراءة سياسية»، ترى أنّ كلّ هذه المحطات بما هو معلَن منها، وبما قد يستتبعها لاحقاً، تحت عنوان وحيد «فتّشوا عن رئاسة الجمهورية».

تفترض هذه القراءة أنه قد يكون مردّ هذا التطوّر القواتي الى قراءة واقعية وموضوعية لموازين القوى التي مكّنت المحور «المعادي» من أن ينتصر، أو يكاد، على المستوى الإقليمي، وكذلك موازين القوى الداخلية التي فرضت محلّياً انتخابَ عون رئيساً، وتشكيلَ حكومة بالشكل الذي تشكّلت فيه، وسبق لها أن أجبرت جعجع على الالتحاق بالمسيرة وركب الموجة وترشيح خصمه التاريخي. وهو ما يحاول أن يقطف ثمارَه ما استطاع.

وتفترض هذه القراءة أنّ تلك المحطات ترتكز على طموح رئاسي لرئيس «القوات» لمرحلة ما بعد عون، يرتكز بدوره على شعورٍ لدى جعجع بأنّ دورَه الرئاسي لا بدّ آتٍ، كونه المرشح الأقوى مسيحياً بعد عون، ومن هنا منبع الليونة والغزل تجاه «حزب الله» وإبداء الاستعداد للتواصل والحوار معه، وذلك بهدف فتح صفحة جديدة، على اعتقاد أنّ القوة الرئيسة في البلد التي أتت بعون رئيساً يمكن في لحظة معيّنة أن تفتح الطريق أمامه الى الرئاسة- تبعاً للظروف التي قد تستجد - وتقطع الطريق على أيّ مرشّح آخر وتحديداً سليمان فرنجية، ولذلك لا بدّ من مهادنة هذه القوة ومدّ اليد اليها، وخصوصاً أنهما يتساكنان حالياً تحت سقف حكومي واحد.

وبحسب هذه القراءة السياسية، فإنّ قولَ جعجع إنّ هناك توجّهاً لخوض الانتخابات النيابية بتحالف يضمّ «القوات» و«المستقبل» و«التيار الحر» والاشتراكي، لا ينفصل عن «الطموح الرئاسي»، ويمكن قراءته من زوايا متعدّدة:

يمكن تفسيره من زاوية، على أنه يحاكي رغبة يتمنّى أن تتحوّل الى واقع خلافاً للواقع الداخلي والموازين الحالية التي تحكمه.
يمكن تفسيره من زاوية ثانية على أنه يستبطن القول من خلال هذا الطرح «أنا رقم صعب أستطيع أن أنتج معادلات جديدة. أو أنا أحد القوى الرئيسة الاربع في لبنان، التي ستصوغ الحياة السياسية في المرحلة المقبلة».

ويمكن قراءته من زاوية ثالثة على أنّ هدفه فقط هو ملاقاة وليد جنبلاط في تمسّكه بقانون الستين وقطع الطريق على النسبية. وبالتالي الإعلان بشكل غير مباشر عن جبهة رباعية مع الستين وضدّ النسبية. وهذا ما قد يشكل عاملَ ابتزاز للآخرين وخصوصاً للذين ينادون بقانون انتخابي على أساس النسبية وعلى نطاق عريض.

هنا يحضر السؤال: ماذا عن موقف عون الذي يقول بالنسبية، وكذلك موقف الحريري الذي بات يميل الى قانون بنسبية مخفّفة؟ علماً أنّ هناك مَن يقول إنه قد تكون للمسيحيين مصلحة آنية بالستين، ولكنّ مصلحتهم على المدى البعيد تكمن في النسبية، التي تؤكد حضورَهم وحجمهم وتمنع أيّاً من المكوّنات أو الطوائف الأخرى من أكل هذا الدور والحضور، على ما هو حاصل في بعض الدوائر الانتخابية حالياً.

ويمكن قراءته من زاوية رابعة على أنه ينطوي على محاولة لاستنساخ الثنائية الشيعية مسيحياً بثنائية مسيحية تضمّه وعون، وعلى حساب سائر المسيحيين، بما ينفي وجود حزب الكتائب وتيار «المردة» ومسيحيّي «14 آذار»، والعائلات المسيحية التاريخية التي لها عمقها وحضورها. فإن صحَّ هذا الهدف، ألا يخالف ذلك الواقع المسيحي بل المزاج المسيحي العام؟ والى أين يُدفَع المسيحيون المستهدَفون؟

وأيّ مصلحة للمسيحيين عموماً في إقصاء أو إلغاء او تحجيم شريحة واسعة منهم؟ ثمّ ألا يتنافى هذا الاستهداف مع كلّ المطوّلات والمعلّقات التي كانت تُلقى ليل نهار عن الديموقراطية وعن مصلحة المسيحيين. أم أنها كلّها تسقط أمام مصلحة ضيّقة؟

ويمكن قراءته من زاوية خامسة على أنه ينطوي على بُعدٍ إستئثاري أو إحتكاري وإلغائي أبعَد من الساحة المسيحية، ليصل الى عزل الثنائي الشيعي، فهل أيّ من اعضاء التحالف الذي يتحدث عنه يمكن أن يسير في هذه المغامرة الخطيرة، خصوصاً أنّ هؤلاء يعلمون أنّ هذا الثنائي هو معادلة غير قابلة للعزل، خصوصاً في هذا الزمن، بل إنّ هذا الثنائي في موقع الذي يَعزِل ولا يُعزَل؟

يبقى الأساس معرفة ما إذا كانت الاطراف الثلاثة، التي ألحقها جعجع ضمن «التحالف الرباعي» الذي أشار اليه، قابلة بأن تكون جزءاً من هذا التحالف. وهل تمّ الوقوف مسبَقاً على رأي أيّ منهم للانضمام الى هذا التحالف أم لا، أم أنه تمّ إلحاقها بهذا التحالف من باب المونة معها؟
هنا، إذا ما تعمّقنا في مكنونات هذه الأطراف، يتبيَّن أنّ لكلّ طرف أسبابه المانعة لأن يكون جزءاً من هذا التحالف:

فعون (ومن خلاله التيار الوطني الحر)، يفترض أنه قارئ جيد للماضي والحاضر والمستقبل، ومدرك للواقع وللموازين ولمفاعيل القوّة والضعف، ويعرف حدود الممكن وحدود المستحيل، وبالتالي فإنّه في موقعه الرئاسي، وكذلك السياسي المحكوم بتفاهمات معيّنة، يفترض ألّا يخطئ في المعادلات الرئيسة. علماً أنّ عون الرئيس على قناعة دائمة وزادت بعد الرئاسة، أنه في أيّ تحالف وطني، او في أيّ تحالف مسيحي هو المرجِّح، وأنّ «القوات» إزاءه ورغم اتفاقية معراب أصبحت في الموقع الأضعف، وسيكون غريباً إن كانت هذه الحقيقة غير مرئيّة أو ملموسة من جعجع!

وأما الحريري، فهو بالتأكيد يملك القصة الكاملة للتسوية الرئاسية، وللتسوية التي تلتها وأنتجت الحكومة، ويعرف تماماً نقاط قوّة وضعف الجميع حتى التي ترتبط به شخصياً، وتبعاً لذلك من الصعب عليه أن يغادر الطريق الذي يسلكه، وألّا يكمل المشوار الذي بدأه الى الآخر، وبالتالي ليس مستعدّاً لأن يرتكب أخطاء قاتلة كرمى لعيني أحد.

وليس سرّاً أنّ الخلاف بينه وبين جعجع عميق، منذ تبنّيه ترشيح فرنجية، ولم تنجح كلّ محاولات الرتق والتخييط للعلاقة في إعادة نسج الثقة التي تسمح بإنتاج هكذا مستوى من التحالفات، علماً أنّ العلاقة بين «المستقبل» و«القوات» كانت معادلة وعلاقة المعطي دائماً من الحريري، وأما جعجع فكان دائماً في موقع الذي يأخذ. ثمّ مَن قال إنّ الحريري لا يريد أن يمحو ذاكرة هذه المرحلة ولمرة أخيرة؟

ويبقى جنبلاط، والسؤال البديهي هنا: ماذا يمكن ان يضيف هذا التحالف له؟ وما هو عنصر الاطمئنان الذي يمكن أن يقدِّمه جعجع له. ومعروفٌ أنّ جنبلاط، ونتيجةً للتجارب التي تلاحقت منذ العام 2005 وحتى اليوم، لا يمكن أن يسير في أيّ تحالفات تنطوي على مجازفاتٍ أو مغامراتٍ خطيرة أو نوايا إقصائيّة أو إلغائية أو تحجيمية لأيّ مكوّن، أو أهداف لا يستطيع أحد أن يتحمّل عواقبها.

ومعروفٌ أيضاً أنّ جنبلاط وفي المبدأ يبحث في المرحلة الراهنة عن «حلفاء» يعطونه ولا يأخذون منه. ولعلّ النقطة الأساس في هذا السياق، هي أنّ الذاكرة الوطنية والجنبلاطية والقواتية، تسجّل أنّ بينهما تاريخاً قديماً حاداً، كما لم تسجّل هذه الذاكرة لحظاتِ انسجامٍ جدّي بينهما حتى أيام وجودهما معاً تحت سقف «14 آذار».

ووفق القراءة السياسية، أنه إذا كان أطراف التحالف موافقين على الانضمام اليه فهذا يعني وضع البلد أمام مشكلة لاحقة، وأما إذا كان الأمرُ خلافَ ذلك، فالجواب عند جعجع. لكنّ المغامرة الكبرى في هذا الطرح، أنه إذا افترضنا أنّ لجعجع الحق على الحريري وجنبلاط كحليفين سابقين له في «14 آذار»، فبأيّ حقّ يلحق عون بتحالف تُشتمّ منه رائحة أهداف إلغائية وتحجيمية لكلّ المكوّنات الأخرى.

والسؤال الأهم هو هل هذا التحالف إن قام يملك القوة والقدرة على الإلغاء أو التحجيم؟ هنا المعني الأول بمحاكاة ضرورة أو عدم ضرورة، صحّة أو عدم صحّة هذا الطرح هو عون قبل أيّ أحد آخر.