قبل أن يبدأ اللبنانيون بالتفكير في الإصطياف أو الإشتاء او تمضية إجازاتهم في دول الخليج العربي او في إيران، لن يكون بالامكان الجزم بأن لبنان اصبح بالفعل دولة نفطية دشنت قبل أيام عملية استخراج مصادر الطاقة من مياهها الاقليمية، حتى ولو إنضمت الى منظمة أوبك للبلدان المصدرة للنفط، او مجموعة الدول الخمس الرئيسية المصدرة للغاز.

   الثروة الموعودة التي ستحل على اللبنانيين بعد سنوات من الان، كما هو الوعد والحلم والأمل، هي بالتأكيد المعيار الأدق لذلك التحول التاريخي للبنان، لكن سلوك الجمهور اللبناني وأسلوب إدارته لتلك الثروة يستدعي الكثير من الاهتمام المبكر، بإعتباره المؤشر الاهم لمستقبل لبنان وما إذا كان سيندمج أكثر فأكثر مع محيطه العربي والاقليمي، أم أنه سيسلك مساراً معاكساً، يعبر عن نزوعه الدفين الى الإنفصال عن ذلك المحيط والبحث عن هوية جديدة، أو اختراع هوية خاصة.

السؤال ليس طرفة، والثروة ليست مجرد نعمة، ولن يواجه أي لبناني صعوبة في التنعم بها إذا جاءت فعلا، كما لن يجد اي عقبات أمام تبديدها إذا تراكمت. لكن إرتقاء لبنان الى مصاف دولة مصدرة للنفط والغاز، دولة غنية، يمثل بلا أدنى شك إنقلابا في الكثير من المفاهيم والقيم والرموز التي يتوارثها اللبنانيون جيلاً بعد جيل ، والتي أكسبتهم أينما وجدوا هوية ثانية خاصة بهم.

من البديهيات الاولى، أن النفط (او الغاز) لا يمكن ان يبني دولة في لبنان على نحو ما جرى في مختلف بلدان الخليج العربي، حيث كانت  الطاقة ولا تزال مصدر الشرعية ومركز الحكم ومحور الولاء.. كما لا يمكن ان يضمن إستقراراً وإزدهاراً كان الايرانيون على سبيل المثال وما زالوا يفتقرون إليهما، على الرغم من مصادر الطاقة التي تختزنها أرضهم.

لا يمكن للبنان ان يجنح نحو الغرب، أو ان يدعي السعي الى إستلهام التجارب الغربية وتقليدها. فالمقدمات الاولى لمسيرته النفطية ، لم تكن واعدة ولا مطمئنة، ولا توحي ان البدء باستخراج النفط والغاز من البحر ، سيساهم  في قيام دولة مركزية قوية تشبه أياً من دول الخليج العربي أو إيران، وتعتمد بشكل خاص على وجود صندوق سيادي ( لم يرد ذكره في المراسيم النفطية التي اقرتها الحكومة اللبنانية قبل أيام) لادارة الثروة العتيدة وإستثمارها.

ما حصل حتى الان هو العكس تماما، وهو أدنى بما لا يقاس من التجارب الخليجية والايرانية: بدلا من قيام مملكة او سلطنة أو إمارة لبنانية واحدة، تقودها أسرة أو شبكة أو مؤسسة واحدة تتولى تلك المهمة الوطنية، ستؤدي الثروة المقبلة كما يبدو الى قيام إمارات لبنانية متعددة(تعكس مواقع الآبار المكتشفة حديثاً، وتظلم الطوائف التي ليس لها سواحل على المتوسط)، يترأسها  ملوك وأمراء وشيوخ مختلفون وربما متنافسون، وأحيانا متصارعون على الأسعار والعوائد.

هي الحرب باشكال أخرى، بسلاح النفط الذي يدخل موازين القوى اللبنانية الراهنة، التي لم يسبق ان إستقرت على معادلة ثابتة، بل كان تقلبها الدائم هو الثابت الوحيد منذ قيام الجمهورية. وقد يصبح صعود الاسعار وهبوطها هو المؤشر السياسي الابرز في لبنان بعد الشروع في توقيع عقود التصدير والإنضمام الى بورصة الاسواق العالمية.. وهي خطوة لن تكون سهلة أيضا في ظل التنافس الحاد بين المنتجين والمصدرين وبين أعضاء اوبك وأخصامها.

وهي المقاومة بعناوين جديدة. فالعدو الاسرائيلي لن يتورع عن سرقة النفط والغاز اللبناني من المواقع المتقاربة، ولن يرتدع بالقرارات ولا بالقوات الدولية.. ولن يجد في مواجهته على الارجح جبهة لبنانية موحدة ومتماسكة تجمعها إستراتيجية دفاعية مشتركة للذود عن الثروة المهددة. أياً كان الغرض من السياحة في الخليج، او الزيارة لايران، المهم الآن ان تأتي الثروة ولكل حادث حديث..