يوم توّجت مصالحة الجبل في زيارة البطريرك نصرالله صفير إلى الشوف، تحدّث الجميع عن جرأة رئيس الكنيسة المارونية، ورئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط. كانت المصالحة أبرز أشكال المواجهة المبكرة للوصاية السورية، كما كانت أيام تجليات قوة جنبلاط، الذي لم يستثمر زعامته الدرزية فحسب بل وسّعها، وتحدّث بلسان المسيحيين أيام كانوا مغبونين رغم الصراع الدموي معهم والذي يصل إلى حدود الكره.

قرأ جنبلاط بتمعّن. واستشرف حقبة مقبلة. فسارع إلى الدعوة لإعادة التموضع السوري والإنسحاب إلى البقاع. كما شارك في لقاءات قرنة شهوان. وموقفه المعارض لانتخاب إميل لحود والتمديد له، دغدغ مشاعر الجميع وخصوصاً المسيحيين. منذ ذلك الوقت، بدأ جنبلاط الاستعداد للعب دور بيضة القبان. وقيل فيه كثيراً، مديحاً وهجاءً. فكيف تميل المختارة تميل دفة البلد. وهذا ما شكّل مدعاة تباهٍ للبيك، الذي رفع راية 14 آذار، ووسع زعامته، وإن بشكل مرحلي على السنة وبعض المسيحيين ومستقلّين من الشيعة.

مرّت عشر سنوات، حصلت خلالها أمور كثيرة وتبدّلت ظروف. تحققت خطوة المصالحة بفعل قراءة التطورات الإقليمية والدولية. واستمرّت إلى ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكنها بدأت التراجع مع الوقوف في وجه أي تظاهرة شعبية إلى بعبدا للمطالبة بإسقاط لحود. وبدأ الميزان ينكسر لمصلحة الحلف المناهض، من حرب تموز إلى 7 أيار 2008، رسالة "تأديب" حزب الله، من يريد الاستمرار بالذهاب بعيدأ في طموحاته. وما ساعد الحزب على تحقيق مراده، هو التخلّي المحلي والدولي عن هذا الفريق.

غيّر جنبلاط قواعد اللعبة، والتزم بسقف محدّد. ربط النزاع مع حزب الله، ولكنه بقي بيضة القبان. الشهادة الحية على ذلك، تكليف نجيب ميقاتي برئاسة الحكومة. أسبوع واحد، وبضعة شبان بقمصان سوداء توزعوا في طرقات بيروت، تكفلوا بتغيير المعادلة، فلم يرد جنبلاط تكرار تجربة أيار 2008. مال إلى ميقاتي، واستمر طيلة أيام حكومته الطرف القوي رغم حصته الضئيلة.

انتعشت الآمال، أيام الربيع العربي، وتحديداً أيام الثورة السورية. لم يكن يتوقع جنبلاط انتصاراً سريعاً للثورة، لكنه لم يكن يعتبر أن الأمور ستأخذ هذا المنحى، لتعود حظوظ بشار الأسد وتتعزز. بقراءته الإستشرافية للوضع الدولي، اعتبر أن الأيام المقبلة ستكون سوداء. لذلك، لا يمكن لجنبلاط أن يتصرّف كالآخرين. وضع الدروز وحجمهم رغم تجّذره وقوته في لبنان، إلا أنه لا يسمح معاندة الرياح العاتية. فمثلاً، إذا عاند أحد الأطراف المسيحيين، قد يرتكز على الفاتيكان، أو أوروبا، أو الولايات المتحدة، ودعاة حماية المسيحيين كثر، أما الدروز فليس لديهم من يرتكزون عليه. من هنا، تتجلى براغماتية جنبلاط، بالإنحناء أمام العاصفة.

يمتاز جنبلاط بأنه يفكر بطريقة حديثة نسبياً، وهي خارجة عن الإطار الدرزي الضيق، وخارجة على منطق الأقليات. لكن الظروف كانت تفرض عليه أن ينحصر كممثل للدروز فقط مع الاحتفاظ بلعب دور بيضة القبان. لكن، مع بروز احتمالات التسوية التي ستنتج رئيساً إسمه ميشال عون، كان لا بد من الواقعية المرّة. فإذا ما كان المستقبل أي السنة، وحزب الله أي الشيعة، والمسيحيون، يريدون عون، ماذا باستطاعة الدروز أن يفعلوا؟ كان لا بد من مجاراة الخطوة وإن على مضض، فالوضع لا يحتمل فتح معركة مع التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، لان الانتخابات النيابية أهم من رئاسة الجمهورية بالنسبة إلى رئيس اللقاء الديمقراطي.

كان لا بد من التنازل عن كثير من وجهة نظره، مقابل الحصول على قانون الانتخاب الذي يراعي وضعه. تنازل في الحكومة عن حصة وازنة، لم يعد بيضة القبان، كله يسهل في سبيل قانون الإنتخاب. ورغم مراعاة مختلف الأطراف له انتخابياً، إلا أنه سيظلّ مضطراً إلى المراعاة، وحذراً من أي قانون انتخابي ينال من حصته وتمثيله. لأنه باتفاق المسيحيين في ما بينهم سيضطر إلى مجاراتهم من دون مقابل فائض كما كان في السابق. أولى صرخات جنبلاط ارتفعت، في استثنائه بالعديد من الملفات، وكان آخرها ملف النفط، حيث اتفق على أن تكون بدايات التلزيم في ثلاث مناطق استثنيت مناطقه منها، وقدّ قسّمت على ثلاث قوى. ثلاثة بلوكات لمصلحة بري في الجنوب، وبلوك واحد لمصلحة الحريري في بيروت، مقابل بلوك لمصلحة باسيل مقابل شواطئ البترون.

أمور عديدة تحتاج إلى تغيير لدى جنبلاط أولها طريقة التفكير، والتحضير للمرحلة المقبلة، التي ستكون الآن مرتكزة على المهادنة، لكن مستقبلاً لا بد من أفكار جديدة، خصوصاً إذا ما أراد التحالف المسيحي في الجبل أن يأخذ على لوائحه مرشحين دروز غير جنبلاطيين.

سؤال أساسي يطرحه جنبلاط بعد ما جرى، بتغريدة وحيدة عبّر عن استيائه "بعد جلسة الأمس ما العمل؟ إن خيبة الأمل كبيرة، لكن الاستسلام ممنوع". يوحي الكلام بأن الرجل لن يسكت. والمرحلة الآن للتفكير بامكانية تغيير قواعد اللعبة.