لا يزال الإعلاميون والاستراتيجيون الأتراك على خلا ٍف شديد في عدة مسائل: هل تأخرت الدولة في التدخل في سوريا لصون حدودها على الأقل من أمواج اللاجئين
السوريين، ومن التقدم الكردي باتجاه الحدود؟ ولماذا أبت تركيا الدخول في التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة ضد «داعش» عام 2014؟ وهل كانت الحملة الشعواء
على جماعة غولن ضرورية، بدلاً من الاكتفاء بتنظيف الجيش وقوى الأمن من الانقلابيين؟ ولماذا لم تستطع حكومات إردوغان خلال السنوات الثلاث الأخيرة الوصول
بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإيران إلى مستقر؟
الإمساك به
ٍن للموقف، وهو تقديٌر لا يملك أي طر ٍف نعمةَ
لا يملك أحد في تركيا إجابا ٍت مقنعة عن كل هذه الأسئلة، لأن الإجابة أو الإجابات ينبغي أن تستند إلى تقديٍر معيَّ
وسط المشهد المعقد بالمنطقة، والآخر الذي يزداد تعقيدًا بالداخل التركي.
أما خصوم تركيا ومنافسوها السابقون والحاليون فلديهم إجابا ٌت جاهزة: ما تحالفت تركيا ضد «داعش» منذ البداية لأنها أرادت استخدام التنظيم ضد نظام الأسد، وضد إيران،
وضدَّ الأكراد. وعندما تبيَّن لها أ ّن «داعش» لا يمكن ضبطه أو تسخيره، خشيت من مواجهته لتأثيرات ذلك على الداخل التركي، ولأنها اختلفت مع الولايات المتحدة بشأن
الانتصار للأكراد حتى وهم يحاولون إقامة كيا ٍن كردي على الحدود التركية ­ السورية!
إن الواقع الحالي أن تركيا مضطرةٌ الآن لشن حرو ٍب على عدة جبهات: ضد «داعش» على الحدود وبالداخل التركي، وضد حزب العمال الكردستاني بسوريا والعراق
وبالداخل التركي. كما أنها مضطرةٌ لإعادة النظر في علاقاتها التاريخية والاستراتيجية مع الأميركيين ومع الأوروبيين وفي طليعتهم ألمانيا. وهي في الوقت نفسه تفقد بالتدريج
أهّم الميزات التي جلبها عهد إردوغان وحزب العدالة والتنمية: الاستقرار والنمو الاقتصادي الم ّطرد، والوحدة الداخلية، والعلاقات الحسنة بالغرب وبالشرق.
ا أي ًضا لماذا سه َل على الاتحاد الأوروبي التخلّي عن تركيا بهذه السهولة. بيد
ومن غير المعروف بعد لماذا راهن أوباما على الأكراد حتى في مواجهة تركيا، كما ليس معروفً
أن الس َّر الكبير ليس هذا الأمر أو ذاك، بل هو في الجرأة الإيرانية على التلا ُعب في العلاقة مع تركيا، وحتى في المل ّف الكردي، المفروض أنه كان هناك منذ زم ٍن اتفاق
بينهما بشأنه، باعتباره يهِدّدُ وحدة البلدين وليس وحدة تركيا وأمنها وح ْسب!
لا يش ّكل تنظيم داعش خط ًرا كبي ًرا على تركيا، رغم كثرة ضحاياه بالداخل التركي عام 2016 وآ ِخرها الهجوم الفظيع ليلة رأس السنة، وذلك بسبب الإجماع على مواجهة
الإرهاب في كل العالم وبالداخل التركي. ولا ش ّك أن آلام التنظيم وفظائعه ستستمر خلال العام 2017 ،وعلى تركيا وغيرها من دول المنطقة؛ إذ حتى الآن ما ظ َّل آ ِمنًا من
هجمات التنظيم غير الداخل الإيراني. وفي تصريحات قادة التنظيم الأخيرة اعتبار تركيا دار حرب، وكذلك السعودية. إنما كما سبق القول، فإن الهجمات الداعشية تفيد
إردوغان في فرض تما ُس ٍك بالداخل، وإظهار تركيا باعتبارها في المقدمة في مواجهة التنظيم بعد طول انتظار. والطريف أن أميركيي أوباما توقفوا عن تقديم الدعم الجوي
هم في ذلك الروس!
للأتراك والسوريين من حلفائهم وهم يتقدمون للاستيلاء على بلدة الباب، فحل محلّ
والأمر غير ذلك مع المسألة الكردية. فالأميركيون والأوروبيون (والإسرائيليون) يعطفون على الأكراد في العراق وتركيا والآن في سوريا أي ًضا. وهم لا يفرقون بين حزب
العمال وقوات سوريا الديمقراطية. والموقف الإيراني يمكن القول عنه إنه في أحسن الحالات غامض. ولدى حزب العمال قواعد الآن في منطقة سنجار بالعراق، وربما
للأكراد في الفيدرالية السورية
أي ًضا، فالمعروف عنهم أنهم لا يريدون ُمعاداة الأكراد، وقد يتفقون مع أميركيي ترامب على موقعٍ
بحماية سليمانية. ونيات الروس غامضةٌ
القادمة. وعلينا أن لا نستخ َّف بالقوة العسكرية لحزب العمال، فهي الآن في حدود الخمسين ألفًا، ولديها قدرات وإمكانيات في علائقها الغامضة بين الأميركيين والإيرانيين
فمن أين السلاح والتنظيم والقواعد وحرية الحركة؟!
والروس والنظام السوري والجمعيات الأوروبية، وإلاّ
أما الخطر الآخر على تركيا فهو تزع ُز ُع علاقاتها بالولايات المتحدة، وبدول الاتحاد الأوروبي. وإذا كان الأميركيون يهتمون بالأبعاد الاستراتيجية، فإن الأوروبيين يزعمون
يًا فيها، ومنظره يزداد كل يوٍم سو ًءا. وإذا كان هناك إجماع تركي وغير تركي ضد «داعش»، فليس
الاهتمام بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مسائل لا يبدو إردوغان ُم َجلّ
هناك اتفاق مع سياسات إردوغان الداخلية تجاه جماعات غولن، وتجاه الإعلام والحريات. وهو يحظى بدعم القوميين الأتراك ضد الأكراد، لكنه لا يحظى بدعم الليبراليين
واليساريين في أكثر الملفات. وهذا التعّري الداخلي والأوروبي والأميركي يجعل من المشهد الداخلي التركي والآخر العالمي نقطة الضعف الثانية لإردوغان بعد الصراع مع
الأكراد بالداخل وبالجوار.
أما في العلاقات المستجدة والمتطورة مع روسيا الاتحادية، فإن إردوغان يملك عدة نقاط قوة لا يملكها في الملفات الأخرى. فهناك الفوائد الاقتصادية المتعاظمة بين الدولتين،
وهناك العالم التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، الذي يدين بالولاء للرئيس الروسي من جهة، ولتركيا من جهٍة ثانية وقبل إردوغان وبعده.
إ ّن العلاقات مع روسيا مفيدةٌ جدًا لإردوغان لناحيتي الأمن والحدود حاليًا. إنما في مجال التوازن الاستراتيجي، وفي مجال تنمية تركيا ورفاهيتها واستقرارها الاجتماعي
والسياسي، فإنه لا بديل لتركيا عن أوروبا وعن الولايات المتحدة. وعلى هذا التوازن، وهذه الضمانة الأطلسية والاقتصادية والسياسية، قام الوجود التركي وتطور منذ
الحرب العالمية الثانية. ولذلك فإ ّن تهدُّدَ هذه الشراكة، وسواء أكان ال ُمذنب في ذلك أوباما أو إردوغان أو ميركل، يهدّد مستقبل تركيا وسط عالم قالت مجلة «تايم» أخي ًرا إنه
خرج عن كل القواعد المتعارف عليها.
في مصائر علاقات تركيا المستقبلية بالإقليم وبالعالم. فلدى تركيا وعلى أرضها
وعلى أي حال، فإ ّن التجربة الحالية للتعاون الروسي ­ التركي في الأزمة السورية، حاسمةٌ
أكثر من ثلاثة ملايين سوري. وعلى الطرف الآخر من الحدود «داعش» والأكراد اللذان يتقاتلان لك ّن كلاً منهما عدٌّو شِر ٌس لتركيا. ووراء الأكراد والدواعش الميليشيات
الإيرانية والقواعد الروسية. وإذا كان الخبراء يخشون على روسيا من النواحي الاقتصادية، فالخشية على تركيا ليست أقل بعد أن فقدت عملتها ُزهاء الـ20 في المائة خلال
ستة أشهر. قال إردوغان عام 2007 في معرض امتداحه لتطور علاقات تركيا بنظام الأسد: نحن محظوظون بهذا الموقع، وهذه الحدود المفتوحة في الاتجاهين بيننا وبين
الشقيقة سوريا! أما في عام 2015 فقد قال مدير وكالة الأنباء التركية السابق عبد الحميد بليجي: الجوار مع سوريا الأسد لعنة جغرافية وتاريخية!