بمرارة كبيرة أكتب هذا النصّ. بحزن وغضب، وبفيضٍ من الألم. حين كان كلّ أركان الدولة اللبنانية يتسابقون للوقوف أمام الكاميرات، والتشاوف بأنّهم سيداوون جرحى اسطنبول اللبنانيين، وسينقلون عائلاتهم مجانا إلى تركيا، ويعيدونهم مجاناً إلى بيروت، كاد ابني، محمد بركات، أن يموت على باب أكثر من 10 مستشفيات، رفضت استقباله لأنّه "مضمون" و"مش تأمين".

من الساعة 8.30 ليلا إلى 5 صباحاً، كان طفلي البالغ من العمر 31 يوماً، حرارته 39، يبكي، حتى اصفرّ وجهه واختنق صوته، وأنا ووالدته نبكي، لنعرف مما يشكو وما الذي يمكن أن يهدّىء من بكائه.

هذه الحكومة هي المسؤولة عن صحّة ابني، ممثّلة بوزير الصحّة ورئيس الحكومة وكلّ الوزراء، وأيّ مضاعفات ستتحمّل مسؤوليتها المستشفيات التي رفضت استقباله.

الساعة 8.30 وبعد نصف ساعة من البكاء المتواصل، وبعدما رفض أن يأكل أو أن ينام، اتصلنا بطبيبه الذي طلب إعطائه "البنادول" وإذا لم تنخفض الحرارة فإلي أقرب مستشفى. وهكذا كان. الساعة 10 تقريبا وصلنا إلى مستشفى السان تيريز، حيث الازدحام في الطوارىء أخّرنا إلى الساعة 10.45 تقريباً. حين خرجت ممرّضة تقول إنّ صوت الطفل أزعجها كثيرا: "دخّلوه طوَشني". كأنّها تتعاطى مع موظفين في اسطبل وليس مع بشر من لحم ودم.

"خديلو حرارتو"، قالت الممرّضة لزوجتي. فسألتها زوجتي أن تساعدها لأنّها متعبة. رفضت وقالت: "قيسوا حرارته ثم قيسوها مجدّداً بعد نصف ساعة". وسألت: "معكم Panadol؟". فأجبناها: "نحن في مستشفى لماذا نحضر Panadol معنا". فقالت: "لا يوجد هنا لا ميزان حرارة ولا Panadol".

ثم بدأ ممرّض آخر بالسؤال عما إذا كنا نملك أدوية لا أذكر أسماءها. طلبوا مني أن أذهب إلى مكتب الدخول لفتح الملف. بعد أسئلة عن العنوان والاسم والهاتف... سألني عن الجهة الضامنة، فقلت:"ضمان". هنا تغيّرت ملامحه. ونظراته وحركاته، أضفت: "لكنني قدمت أوراقه للتأمين ومن المفروض أن أستلم البطاقة بعد العطلة"، ليأتي الجواب: "نعم ولكن أنا ليس لدي علاقة بهذه الأشياء، وبأي حال فليس لدينا غرفاً شاغرة". وأقفل الملف وطلب منّا المغادرة.

"ما العمل إذًا"، سألته، أجاب: "عليك أن تأخذه إلى مستشفى آخر". دخلت حينها إلى غرفة الطوارئ مجددًا لأجد الممرّضة تنتظرني مع ورقة أعلن فيها مسؤوليتي الكاملة عن نقل ابني إلى مستشفى آخر، وأخلي مسؤولية المستشفى. وبعد أخذ وردّ قالت: "إذا لن نذكر أنّكم جئتم إلى هنا... غادروا". وأضافت: "الولد بدّو مستشفى".

للحظة ظننتُ أنني في سوبرماركت رديئة وليس في مستشفى. في دكان كبير، لكن سيّء الخدمة وفارغ من الأساسيات، أقلّه ميزان حرارة و Panadol. ولأنّني لم أعرف ما الذي عليّ فعله انتظرتُ في الخارج، في البرد، أنا والطفل المطرود من الطوارىء، والوالدة التي تبكي. حاولنا الإتصال بأكثر من مستشفى، بينها "المشرق" و"السان شارل"، اللتين وافقتا على استقباله، وحين علمتا أنّه "مضمون"، الجملة نفسها: "غرف الأطفال complet، ما في مطرح منعتذر". أما مستشفى جبل لبنان فكانت حجتها أنّه "لا يوجد لدينا قسم للأطفال". وهذا بحاجة إلى تدقيق.

حاولنا توسيط طبيب نعرفه في إدارة "السان تيريز"، لكنّه أعلن عجزه: "هناك غرف درجة أولى وادفعوا فارق الدرجة". وافقنا، لكنّ الموظف لحق بنا إلى السيارة: "الطفل تعبان"، وشبك يديه كشرّير في فيلم للأطفال: "ادفع 500 دولار ومنظبّطها". فسألته: "يعني رشوة؟"، فقال: "فتح ملفّ، ومنفضّي غرفة".

لم أصدّق ما سمعته. جرّبت مستشفى السان جورج القريبة، لكنّهم أعلنوا بحزم: "لا نستقبل أطفالاً في هذا العمر". في هذه الأثناء كان عمّ الطفل اتصل بمستشفى الجامعة الأميركية، وكانت الساعة 12 أو 12.30، والطفل لم يتوقف عن البكاء. الموظف الذي ردّ من الطوارىء حين علم أنّ الطفل "ضمان مش تأمين"، قال: "يمكن ما يكون في أسرّة الليلة".

هكذا حوّلنا طريقنا من الحدت حيث "السان تيريز" باتجاه الحمرا حيث "الأميركية" إلى الأشرفية حيث "مستشفى الروم". كانت الدكتورة جويل بغاية اللطف، وفحصت الطفل وأكّدت أنّه يحتاج إلى "دخول المستشفى". مجدّدا شعرتُ بأننا نتنقّل بين متاجر لبيع الألبسة ونتحدث مع بائعي خضار وليس مع أطباء: "ولكن هذه أليست مستشفى؟"، سألتها، فأجابت: "سأساعدكم وأجرّب الاتصال بمستشفى أوتيل ديو. وفعلا تعبت وهي تحاول تأمين سرير في أوتيل ديو، وعبثا، ثم في "مستشفى كليمنصو الطبي". وافقوا. اتصلتُ بهم: "سأتوجه نحوكم، لديكم سرير للطفل؟"، سألت العامل في الطوارىء، فقال: "انتظر قليل". وسأل زميلا إلى جانبه: "هناك سرير لطفل عمره 31 يوماً؟"، فسأله زميله: "شو وضعه؟". أجابه: "حرارة عالية وبكاء". أردف الزميل: "قصدي تأمين أو شو؟". أعاد له: "ضمان". فأجابه بشكل نهائي: "ضمان ما عندي، ما في للضمان. يجرّبوا مطرح تاني".

كانت الساعة شارف الثانية بعد منتصف الليل. وبدأتُ أخاف على حياة الطفل. اصفرّ وجهه وشعرتُ أنّه بات بين الحياة والموت. من لنا منتصف ليل الأحد في شوارع بيروت الباردة؟ من لنا في هذا الصقيع؟ ماذا نفعل؟

في هذه الأثناء حاولنا الاتصال بفريق وزير الصحّة. اتصل أخي بمن قالوا إنّه مدير مكتبه ميشال عاد. كان جوابه: "اتصل على 1214 واترك شكوى". لكن يا أستاذ، الطفل في الشارع، بماذا تنفع الشكوى: "هم يتابعون معك". وأقفل الخطّ.

أخي اتصل وسجّل شكوى، فقال له الموظف على الخطّ الساخن: "القصّة قصّة مصاري". لكن لم يطلب أحد مالا، فقط يرفضون استقبال الطفل لأنّه "مضمون". أجاب الموظف: "لا علاقة لنا كوزارة بالموضوع".

بعد الاتصال بكثيرين، ردّ شاب اسمه هشام فواز، علمت في اليوم التالي أنّه رئيس دائرة المستشفيات والمستوصفات في وزارة الصحّة. حاول الاتصال بأكثر من مستشفى، وبعد جهد جهيد، الساعة 3.30 فجراً، نجح في الحصول على موافقة لإداخله إلى المستشفى اللبناني الكندي: "فقط يريدون تقريرا بحالته من مستشفى الروم". وهكذا كان. 

وصلنا 3.30 وكانت حرارة الطفل قد شارفت على الأربعين وصوته يختنق من شدّة البكاء. أدخلوه قسم العناية المركّزة بالأطفال... وبعد ساعات قليلة أكّدوا لنا أنّه يعاني من التهابات في الدم. ويحتاج الأمر أسبوعا قبل اكتشاف السبب. سحبوا "مياه من الرأس" و"دماء" وعلّقوا المصل. وخرجنا الساعة 5 فجرا تاركين الطفل بين يدي الممرّضات.

وصلتُ إلى البيت، لأفتح التلفزيون، وأقرأ الأخبار في الشريط. الدولة كلّها مستنفرة للاستعراض أمام جثث ضحايا تركيا من اللبنانيين. طائرات مجانية وأطباء يسافرون واتصالات على مستوى رئاسي. استعراض تافه. ابني كاد يموت على أبواب 10 مستشفيات، ترفض إدخال طفل عمره 31 يوما لأنّه "ضمان مش تأمين". الثلاثاء صباحا تصدر بطاقة التأمين. ساعات قليلة قد تقضي على الكثير من مستقبله، لا سمح الله.

هذه الحكاية برسم وزير الصحّة ونقابة المستشفيات والأطباء، وبرسم حكومة "استعادة الثقة". وقد لا تنجح في استعادة أيّ ثقة.


ليبانون ديبايت - بهاء بركات