فيما كان والد وابنه يتشاجران كلامياً على مسمع أحد الجيران في فرنسا، سقط الوالد أرضاً وسرعان ما هرع الإبن راكضاً، فتوجّه الجار الى مكان الإشكال ليرى الوالد "ملقوحاً" أرضاً والدماء تسيل من رأسه. وبعد استدعاء الشرطة وتوقيف الابن بتهمة القتل، عكس تشريح الجثة الذي قام به الطبيب الشرعي النتيجة محوِّلاً الابن المجرم الى بريء خصوصاً بعدما تبيّن أنّ سبب السقوط يعود الى ذبحة قلبية أصيب بها الوالد أدّت الى وقوعه ووفاته. يُعتبر الطب الشرعي حلقة وصل بين الطب والقانون، فبواسطه قد يتحوّل المجرم الى بريء وكما يمكن أن يساعد في الحكم على الجرائم المختلفة وعلى تحديد الجثث في حال الحوادث المميتة.

"هو علم واسع ودقيق جدّاً" هكذا يصفه المتخصص في الطب الشرعي في اوروبا ونيويورك والرئيس الحالي لقسم علاج الأورام بالإشعاع في مركز كليمنصو الطبي البروفيسور نيقولا زوين الذي قال في حديث لـ"الجمهوية" إنّ "الطب الشرعي اختصاص طبي يهدف للاطّلاع على عالم الجرائم والتحقيق بالالتباسات كما أنه يتدخل في الحوادث المختلفة في حال كانت الضحية جريحاً أو متوفياً".

تشخيص الجرائم المختلفة


يتدخل الطب الشرعي في كلّ تفاصيل الجرائم والحوادث والاعتداءات، ويهتم بصياغة التقارير الطبية الدقيقة والمفصّلة وتسليمها للقضاء المختص، بحيث يُعتمد عليها كجزءٍ من إصدار الاحكام وتحديد العطل والضرر، ويشرح زوين بعض الفحوصات الطبية والتشخصية التي تجرى لتحديد كلّ حالة قائلاً:

الاغتصاب: يُفحص الشخص الذي ادّعى أنه تعرّض للاغتصاب سريرياً، ويتمّ أخذ خذعة من المهبل مثلاً بالنسبة للمرأة، ويُبحث عن آثار للجلد الذي يمكن أن نجده عادةً تحت ظفر الشخص المعتدى عليه، اضافةً الى محاولة ايجاد السائل المنوي الذي يحتوي على الحمض النووي (DNA) والذي يساعد في معرفة هوية المغتصب. كما تُجرى فحوصات الدم لمعرفة إذا كان الشخص تحت تأثير الكحول والمخدرات.

حادث العمل: يفحص الطبيب الشرعي المصاب في المعمل مثلاً ويحدّد إذا كان الخطأ يعود الى انعدام السلامة العامة للعمال أو بسبب العامل نفسه، فيجري له الفحوصات اللازمة لاسيما الكشف اذا كان تحث تأثير الكحول والمخدرات.

السرقة والاعتداء: تُفحص الكدمات التي تعرّض لها الشخص، أو الطعون في حال الاعتداء عليه بواسطة السكين مثلاً، ويقوم الطبيب الشرعي بتقرير طبي مفصّل عن حالة الشخص ويسلّمه للمحكمة التي تعتمد بدورها عليه لتحديد العطل والضرر.

إمراة اعتدى عليها زوجها بالضرب: يعاينها الطبيب الشرعي سريرياً ويكشف عن طريقة الاعتداء من خلال معاينة مكان وآثار الضرب والكدمات. وبعدها تتمّ مقارنة التقرير الطبي مع التقرير الذي كتب خلال التحقيق الشفهي معها لنرى إذا كان هناك تطابق بين الكشف الطبي وقصتها.

الطب في مسرح الجريمة


تحتوي اميركا واوروبا على بنك للمعلومات يتضمن عينات من دم وبصمات كلّ مَن تمّ توقيفه لأيّ سبب، ما يساعد في القبض على المجرم، ولو حتى بعد سنين.

الى ذلك، يكشف الطبيب الشرعي أيضاً على مسرح الجريمة ويوضح زوين أنه «يفحص المكان ويحاول تحديد وقت الجريمة ويكشف عن طريقة تناثر الدم في المكان ليستنتج كيف حصلت الجريمة، او في حال اطلاق النار يعمل على تحديد المسافة، فإذا كانت قريبة تكون هناك حروقات ونسبة برودة واضحة في الجلد.

كما يقوم الطبيب الشرعي باستخراج الرصاصة من جسم الشخص، ويعطيها لمختبر الطب الشرعي لمقارنتها بسائر الرصاصات بواسطة الميكروسكوب إذ إنّ لكلّ رصاصة بصمة يتركها عليها السلاح الذي اطلقت منه.

وقت الوفاة


قد لا يعرف في الكثير من الاحيان وقت وفاة الشخص، في حال العثور على الجثة بعد مرور الوقت، وهنا يهتم الطبيب الشرعي ايضاً بهذا الموضوع، ويقول زوين "نفحص حرارة جسم الجثة، ونقيس مستوى البوتاسيوم في الجسم والتغيرات الحاصلة على مستوى الجسد. وقد يساعد في ذلك علم الحشرات، لأنه عندما يموت الانسان تجذب جثته 14 نوعَ حشرة تأتي على دفعات وكلٌ يأتي بوقت معيّن. فبعد 5 سنين مثلاً يأتي النوع الذي يأكل العظام، فيتمّ فحص الحشرة في المختبر لمعرفة نوعها وتحديد الوقت.

التشريح وتحديد الهوية


يُعد التشريح الكامل خطوة أساسية لمعرفة كلّ تفاصيل موت الشخص، وقد يكشف التشريح في بعض الاحيان اموراً غير متوقعة، وفي حال الحوادث الجماعية لسقوط أو حريق طائرة مثلاً، يساعد التشريح في تحديد هوية كلّ جثة ويفصّل زوين أنه في هذه الحال "نبحث عن الامور الطبية كالعمليات الجراحية أو وجود بطارية في القلب أو البروتيز، لأنّ هذه الامور الطبية تحمل ارقاماً تسلسلية تمكّننا من معرفة في أيّ مستشفى خضع الشخص للجراحة، وبدورها تساعد المستشفى على تحديد الهوية.

اضافةً الى ذلك، يمكن اخذ صورة عن اسنان الشخص في حال الحريق مثلاً وارسالها الى أطباء الاسنان لنرى مَن تتطابق تلبيساتُ اسنانه مع الصورة. وتساعد الصورة الشعاعية لضلوع المتوفي بالكشف عن هويته خصوصاً وانها تختلف من انسان الى آخر، فإذا كان اهل الشخص يملكون أيّ صورة قديمة لضلوعه قد تساعدهم في تحديد الهوية.

الطب الشرعي عالم واسع متفرّع دقيق وخطير، ويشير زوين أنّ «في لبنان قد لا يسمح الاهل بتشريح جثة احد يخصهم، إلّا أنّ التشريح اساسي جدّاً، ومن المهم أن يعلموا انه لا يشوّه الجثة لأنّ الطبيب يعاود تقطيب الأماكن التي شقها في الجثة وتكون القطب مخفية ومن الصعب حتى معرفة أنّ هذه الجثة قد تمّ تشريحها".

(جنى جبور - الجمهورية)