الخطاب الذي أدلى وزير الخارجية الاميركية جون كيري حول القضية الفلسطينية يصلح لأن يكون مقالاً للرأي في صحيفة "نيويورك تايمز" او"واشنطن بوست"، يفتح نقاشاً بين المهتمين والمتخصصين الاميركيين في هذا الشأن. فهذا هو مكانه الطبيعي، وهدفه الحقيقي..الذي لن يتحقق، لانه ليس من تقاليد السياسة الاميركية ان تتحول رسالة وداع الى وصية او حتى الى شهادة.

فالرجل الذي سيغادر منصبه ويهجر الدبلوماسية الاميركية بعد ثلاثة أسابيع، ليس مفكراً او باحثاً او حتى خبيراً مرموقاً. هو مجرد موظف مقرب جداً من رئيسه، مخلص له أشد الاخلاص، يشعر بالغضب فعلا، اذا ما تعرض للاساءة من أي كان.. ويرغب بان ينهي حياته الوظيفية بالرد على الإهانات التي وجهت اليه من قبل كارهيه الاميركيين والاسرائيليين على حد سواء.

الخطاب، الذي تضمن عبارات جريئة حقاً سبق ان سقطت من القاموس السياسي الاميركي منذ زمن بعيد مثل الربط بين الاستيطان والاحتلال، يمكن ان يعتبر تصفية حسابات شخصية من قبل كيري والرئيس باراك أوباما مع خصومهم السياسيين في أميركا وفي إسرائيل ، أكثر من كونه تبرئة للذات وتنقية للضمير تجاه الفلسطينيين او العرب..الذين ربما لم يكترثوا لما قاله الوزير الاميركي او لم يتابعوه، ولن يكونوا معنيين حتى بتوجيه التحية الى تلك اليقظة المتأخرة جداً ، التي فات أوانها.

لكن الخطاب ليس عديم المعنى او الفائدة. تحول القضية الفلسطينية الى أحد عناوين الصراع السياسي الداخلي بين الاميركيين  او بينهم وبين الاسرائيليين هو دليل أكيد على الانحدار والتراجع في مرتبة القضية الاسمى والاعرق والاقدم في السياسة الدولية.. وهو ما لا يعزى لأميركا ولا ينسب لاسرائيل وحدها. ثمة خلل جوهري في التكوين الفلسطيني والعربي الذي يفترض ان يظل حاملاً الشعلة ومكملاً المسيرة بلا تردد.

  لم يكن إختيار العنوان الفلسطيني للخلاف عبثاً او حتى صدفة. ولن تكون نتائجه عابرة. في اميركا إدارة جديدة تتأهب للحكم، بمفارقة عجيبة فعلا. هي تستند الى غالبية أميركية يمينية محافظة ، معادية في الجوهر للسامية، وكارهة حقاً لليهود، وغير مهتمة بأن تظل إسرائيل قاعدة عسكرية أميركية او حاملة طائرات أميركية. لكنها إدارة مخترقة من قبل بعض الرموز اليهودية المحافظة ، التي تمثل بالفعل أقلية بين أبناء الجالية اليهودية الليبراليين والديموقراطيين في الغالب. وهذا الاختراق يصل الى أسرة الرئيس الجديد دونالد ترامب، بما يمثله صهر العائلة جاريد كوشنر  المرشح لدور مركزي في تطوير وتحديث العلاقة مع اسرائيل.

لا ترغب الغالبية اليهودية الاميركية ونخبها المميزة، بالاندماج او حتى الالتحاق بادارة ترامب المحافظة، ولا أن تحسب على تلك الظاهرة الشعبوية الخطرة على أميركا وعلى مستقبل جميع أقلياتها. ولا تود طبعاً ان تظل رديفاً للدولة اليهودية الداعشية التي يقودها  بنيامين نتنياهو، والتي باتت منبوذة من الرأي العام الغربي بمجمله، وليس فقط من قبل طلائعه السياسية والاكاديمية والثقافية.

وبهذا المعنى يمس خطاب كيري عصباً مشدوداً في الداخل الاميركي وفي المدى الاسرائيلي، لن يترك أي أثر مباشر طبعاً على سياسة ترامب وموقف إدارته من القضية الفلسطينية، لكنه يمكن ان يخدم الفرز الحاصل حاليا داخل الكتل والشرائح الشعبوية المنتشرة في الدولتين.

 وهو فرز يشكل فرصة نادرة لإنتاج حالة اميركية - اسرائيلية مناهضة للجنون الحاكم في واشنطن وتل ابيب، ومدافعة عن حل الدولتين. تلك الحالة ليست حتمية، لكن الرهان عليها هو الأمل الوحيد المتبقي الان للقضية الفلسطينية، التي ينحو خطاب كيري المشاغب على إدارة ترامب ، الى إبقائها حية في الذاكرة الاميركية والاسرائيلية، على الاقل كمسألة سياسية – أخلاقية، تتحدى الداعشية اليهودية التي تتجذر  في إسرائيل وتخترق الحلف المقدس بين اليمين الشعبوي المحافظ في الدولتين وفي بقية أنحاء العالم.  -