الأكراد شعب واحد لكنّهم مُنعوا في النصف الأوّل من القرن الماضي من إقامة دولة على أرضهم وأُجبروا على التخلّي عن دولة أعلنوها، لكنّهم استمرّوا عائشين عليها بعدما تقسّمت برضى كبار العالم بين تركيا وإيران والعراق وسوريا.
 

كما استمرّت انتفاضاتهم الشعبيّة وثوراتهم العسكريّة لاستعادة حقّهم في دولة واحدة أو للحصول على حكم ذاتي في الدول التي صاروا من رعاياها وليس من مواطنيها. علماً أن مواطني هذه المنطقة التعيسة رعايا. لكنهم رغم ذلك أخفقوا في تحقيق أهدافهم لأن مسّ النظام الإقليمي السياسي والجغرافي يُعتبر مسّاً بالنظام الدولي الذي أقامه. فضلاً عن أن استخدام أكثر من جهة إقليميّة ودوليّة لهم في صراعاتها بحجّة مساعدتهم على الاستقلال أو على الحكم الذاتي أساء إلى قضيّتهم وأصابهم بأكثر من هزيمة. لكنّهم بقوا أصحاب قضيّة قوميّة رغم انتقال الشعوب العربيّة من العروبة إلى الإسلام، ولاحقاً إلى الفروع المُتشدّدة جدّاً منه بسبب فشل الذين أحيوها في تحقيق الأهداف الوطنيّة الداخليّة والأهداف القوميّة التي سيطرت عقوداً على عقولها والقلوب. ولم يتحوّلوا إلى الإسلام المتشدّد رغم كونهم مسلمين ومتمسّكين بدينهم وبطقوسه، ورغم وجودهم في دول صار الإسلام العنوان الأول لها شيعيّاً كان (إيران) أو سُنيّاً (تركيا) أو شيعيّاً - سُنيّاً - علويّاً - مسيحيّاً (العراق وسوريا). وسمح ذلك للعرب المؤمنين بالقوميّة والوطنيّة، وغالبيّتهم مؤمنة، بعدم فقدان الأمل على ضعفه في قيام دول عربيّة وغير عربيّة تنتمي غالبيّة ساحقة من شعوبها إلى الإسلام. لكن انتماءها الأوّل هو إلى دولها ومؤسّساتها التي تحترم الإنسان وتساوي مواطنيها في الحقوق والواجبات وتمنحهم الحرية على تنوّعها.
إلّا أن المقلق خلال السنة المُشرفة على الانتهاء وربما الأخرى التي سبقتها ليس بداية تخلّي الأكراد عن الانتماء القومي وأهدافه بل عودة العراقيّين منهم إلى العشائريّة والقبليّة التي دفعتهم سابقاً الى التقاتل في حروب قاسية.
إذ بعد نجاحهم في أيّام الراحل صدام حسين في ممارسة حكم ذاتي واقعي جرّاء منع أميركا والمجتمع الدولي طيرانه الحربي من التحليق في أجواء كردستان العراق، ثم بعد نجاحهم في تحويل الحكم الذاتي رسميّاً بعد إزاحته عن السلطة وانهيار نظامه في عام 2003، إذ بعد ذلك كلّه عاد الإنقسام العشائري بين أربيل (البارزاني) والسليمانيّة (الطالباني). ويهدّد ذلك بالتقاتل من جديد، وخصوصاً إذا استغلّت الدول الإقليميّة المهمّة مثل إيران وتركيا والدول الكبرى مثل أميركا وروسيا هذه الحال، وطبّقت من جديد سياسة استعمال الأكراد بغية تنفيذ أهدافها. وبعد ذلك كلّه أيضاً نشبت خلافات داخل كل من "السليمانيّة" و"إربيل" ولم يكن السبب خلافات على أفضل الوسائل لتحقيق الهدف القومي، بل كان التنافس على المكاسب السياسيّة وغير السياسيّة وتحديداً على السلطة.
طبعاً لن نتكلّم هنا عن أكراد تركيا الذين يدفعون ومنذ انهيار وقف إطلاق النار بينهم وبينها ثمن رفض غالبيّة الشعب التركي أي حكم ذاتي لأكراد بلادهم رغم قبولها حقوقاً ثقافيّة و"لغويّة" وتعليميّة لهم. كما يدفعون ثمن سياسة رئيسهم الحالي أو لاسياسته وارتباكه جرّاء التطوّرات الدراماتيكيّة في المنطقة وخصوصاً في سوريا، فضلاً عن ثمن تشدّد بعضهم وإصراره على رفض الخضوع التام. ولن نتكلّم أيضاً عن أكراد سوريا الذين تساعدهم واشنطن وموسكو وتحاربهم تركيا ونظام الأسد وقوّات إيران وميليشياتها، والذين يستعملهم الجميع في الحرب باعتبارهم مقاتلين أشدّاء من دون أن تظهر في الأفق ملامح تسوية لوضعهم بلامركزيّة معيّنة. فأكراد العراق هم الآن المهيّأون أكثر من إخوانهم في الدول المجاورة له إمّا لتكريس الحكم الذاتي رسميّاً، وإما لإقامة دولة مستقلّة. لكن ذلك لا يعني أن الصعوبات والعقبات اختفت من طريقهم، وأهمّها التي تأتي من عندهم كما من عند الحكم العراقي ومن راعيه الإيراني.
كيف يرى الباحثون الأميركيّون وضع أكراد العراق اليوم ومستقبلهم فيه المرتبط بمستقبله أيضاً؟
أثبت الذين يعيشون في عراق اليوم قدرة كبيرة على مفاجأة العالم الخارجي أحياناً بتوقّعات كثيرة جدّاً وأحياناً أخرى بآمال خائبة، يجيب عدد من الباحثين في واشنطن. فالذين يراقبون التحدّيات والكوارث في العراق وفي كردستانه لا يعتقدون أحياناً أن هذه البلاد والمنطقة وشعوبهما ستبقى على قيد الحياة، لكن العراقيّين والأكراد فاجأوا الجميع بعدم الوقوع في الهزيمة عام 2014 يوم إعلان "دولة الخلافة".
ما هو مستقبل كردستان العراق؟