القصة بدأت قبل سنة، حين استضاف مالك مكتبي الشابة زينب بلوط. لم تعلم أنّها نشأت من دون أمٍ حقيقية، تتفهّمها وتكون إلى جانبها حين تتزوّج وتُنجب لها حفيدها.
 

 ربّتها زوجة أبيها ظناً منها أنّها أمها، ثم نقلها والدها إلى دار أيتام عاشت فيه أياماً سعيدة. أسعد ربما من ضباب المنزل والعائلة. والدة زينب عاملة من سري لانكا، لم تدرك هويتها وهي طفلة. وُلد أملٌ كبّرته فيها: أن تعرف مَن هي أمها. نظرت إلى مكتبي وأخبرته عن سَنَدها، عن ظَهْر حماها وصدّق صفاء قلبها، "زوجي! أخبرتُه الحقيقة. لم أرد أن يتفاجأ بماضٍ يُثقل أعماقي. صارحتُه بأنّ مَن ناديتُها ماما هي زوجة أبي. ليست أمي. ديبا غارماسيري عاملة المنزل السري لانكية هي أمي، وأملكُ مستندات لو وقعت بين يديّ أبي لمنعني من المَساس بها!".

زينب ترتجف. مالك مكتبي يتنهّد. نَفَس عميق، ومحاولة اتصال أخرى بمدير مكتب العاملات الأجنبيات المُنتقل إلى أميركا. اسم الأم كاملاً على الشاشة الحمراء، طويل وثقيل على اللفظ، ثقل السنوات التي أمضتها زينب بعيدة عنها. في سري لانكا: ٢٢ مليون نسمة و"أحمر بالخط العريض" ("أل بي سي آي") يبحث عن إبرة في كومة قَش. عن أم رُحِّلت حين أنجبت طفلتها واختفت آثارها. بحثٌ طويل، شاق متعبٌ، ممزوج بالاحتمالات كافة: الأمل مقابل الإخفاق. النجاح مقابل الخيبة. نستعيد قصة شابة في الـ ٢٤، لم تملك سوى مستندات قديمة تحارب بها. بدت المهمة مستحيلة، إمكان الضياع فيها يفوق إمكان الوصول إلى الهدف، ولا استسلام، رغم الأبواب الموصودة والطريق الوعرة. كثّف مكتبي (وفريق البرنامج) الجهد، في صيدا حيث مكتب العاملات وفي الذاكرة والماضي والمخاوف. حمل القضية وقال لزينب بأنه لو بلغت خواتم سعيدة سينتصران معاً. نصرٌ لها على المستوى الشخصي، وله على مستوى الإنسان والمهنة. ضحكَ فضحكت. لمست فيه منقذاً من ضلالها وأسئلتها وعذابات الانتظار الطويل، منقذاً من الكذبة الكبرى.

زينب مجدداً في الستوديو، صراعات وخفقان وعيون متسائلة. لم تستطع حبس الدمع، غصّة القلب ووجع اللحظات المُتعِبة. صفحة تلو الأخرى انكشفت أمامها: ميزات الأم، بعض طباعها، عمرها حين أنجبتها. شريط حياة يمرّ أمام عينين حزينتين وشخصية تملك من الجرأة الكثير حتى تواجه الكاميرا وذاتها والتفاصيل بأثمانها الباهظة. بلحظة، تحوّلت الحقائق وهماً. ديبا غارماسيري قد لا تكون الأم المقصودة. أسماء جديدة وخفايا. انجراف نحو الضوء وعودة إلى برّ مظلم. معلومة ولغز. أحضان أمٍ ومسافات ضوئية تفصلها عن ابنتها. عُلِّق كلّ شيء. كما تُعلّق طائرة بين سماء وأرض. طائرة ستقلّ مكتبي وزينب إلى وطن آخر و"صدمة" قد تكون مُزلزلة.

فيما كلّ ما من حولنا وحول ومستنقعات ضحلة، قدّم "أحمر بالخط العريض" درساً تلفزيونياً في الإنسانية والمعالجة الراقية خارج شهوة الاستغلال والتجارة بمعاناة الآخر. ننتظر السبت، ليلة رأس السنة، لاستكمال القصة. ننتظر وكلنا حقّ زينب في الحقيقة مهما قست، واكتشاف هوية الأم كائناً مَن كانت.