من يزور جامع بني أمية الكبير، أو "الجامع الأموي" كما هو متداول، في دمشق، يمكنه أن يزور ضريح القديس يوحنا المعمدان داخل المسجد، وسيلفت نظره بلا شك المعلمان المحفوظان فيه من آثار كنيسته التي بُني المسجد على أطلالها، وهما: جرن العماد الذي كان يستخدمه لعماد المواليد، ونقش جداري باليونانية في تبجيل السيد المسيح.
 

وجود ضريح القديس يوحنا المعمدان على نحو بارز في واحد من أقدم جوامع العالم الإسلامي يدل على تقديسه عند المسلمين والمسيحيين معاً، فهو نبي في الإسلام كما هو قديس بالنسبة للمسيحيين.

كآخر أنبياء الديانات السماوية، جاء رسول الإسلام، روحياً، من نسب الأنبياء الذين جاؤوا من قبله، وفي حياته، أرسى مساراً لعلاقة المسلمين بقدسية أنبياء الديانتين اليهودية والمسيحية، الأمر الذي أكدته ووثقته قصص الأنبياء في القرآن، والأحاديث النبوية الشريفة. ومع أن ذكر الأنبياء في مجالات دينية، وغير دينية، كالمواعظ، وقصص الأولين، والأمثال، وتجلياتها في النقوش والفنون الإسلامية قد أغنى الثقافة الإسلامية على مدى قرونها الـ14، فقد لا ندرك أن المسيحية والإسلام يشتركان في إيمانهما بعدد من الأنبياء: النبي إبراهيم عليه السلام، الذي تعتبره الديانتان خليل الله، ولكن يختلف وصف أخلاقة وإيمانه في القرآن والإنجيل. والنبي موسى، الذي تتفق الديانتان على اعتباره مختاراً من الله لينقذ شعبه من بطش الفرعون، وتتفق قصصهما عن معجزاته، وآخاه هارون، الذي يعتبر عندهما نبياً أرسل من عند الله إلى فرعون. وثالث الأنبياء المشتركين بين الإسلام والمسيحية، في نصوصهما المقدسة، هو إيليا أو إلياس، الذي رفض عبادة بعل. وتتفق الديانتان على أن قحطاً أصاب البلاد ولم تنفع دعوات الناس وترجيهم إلههم “بعل"، الذي لم يقدر أن ينزل قطرة مطر واحدة تنقذهم من الهلاك، ولكن ذكره أشمل في الإنجيل الذي يعدد معجزاته على نحو مسهب ومفصل. وكذلك تتفق الديانتان على إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف وأيوب وداود وسليمان، وحزقيل، والسيد المسيح وأمه مريم عليها السلام، اللذين تحتل قصتهما مكانة خاصة في القرآن.

بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة، نطلّ إطلالة سريعة على معالم صورة مريم العذراء والمكانة الخاصة لقصة ميلاد السيد المسيح في الإسلام، كما تقصّها لنا آيات القرآن الكريم. تحكي السورة رقم 19 قصة ميلاد السيد المسيح، وتحمل اسم "سورة مريم"، وهي السورة الوحيدة التي سميت على اسم امرأة، تدليلاً على تقدير السيدة مريم في الإسلام. ولا يقتصر ذكر اسمها على سورة مريم،  بل يتكرر في عدد من آيات القرآن، وفي أكثر من سورة ثناء وتكريماً لها، ولعل أكثرها صراحة هي الآية 42 التي تخاطب فيها الملائكة مريم لتخبرها عن مكانتها عند الله: "وإذ قالت الملائكة، يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين”.

معجزة ميلاد السيد المسيح

مع أن الإسلام يعتبر المسيح نبياً، بينما يعتبره المسيحيون ابن الله، إلا أن ما يجمع الإسلام والمسيحية حوله هي المعجزات الثلاث: قصة مريم العذراء، ومعجزة ميلاده، ومعجزة نطقه في المهد. وهو في القرآن موضوع سورة مريم في الآيات 16 حتى 40. تبدأ الآيات بذكر تعبد مريم وتقواها، واعتزالها للعبادة تحت رعاية زكريا، إلى أن أرسل الله لها “روحاً" على هيئة بشر، تطمئنها وتعدها بأنه سيكون لها ابن "زكيا". وبمعجزة من الله حملت مريم. كما تذكرها أيضاً سورة الأنبياء، آية 91: "فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين”. في سورة مريم، تخبر الآيات أن مريم اعتزلت الناس في مكان "قصيّ"، حتى جاءها المخاض. وفي آلامها ومخاوفها، استندت مريم إلى جذع نخلة، وتأوهت: "ياليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسيا”. عندها أتاها صوتٌ يقول لها ألا تخاف وألا تحزن. يوجد أكثر من تفسير لهذه الآية، فهناك من يعتبره صوت جبرائيل، وهناك من يفسره على أنه صوت السيد المسيح نفسه. يشير الصوت عليها أن تهز جذع النخلة التي تستند إليها لتأكل من ثمارها، كما يطلب منها أن تنذر نفسها للصيام عن الكلام مع الناس، وأن تذهب بابنها لعند قومها. حين رآها الناس تعجبوا أن يكون لها ابن من غير زواج، وذكّروها بعفة والديها: آية 28 "يا أخت هارون، ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيّا"، لكنها دون أن تتكلم، أشارت لهم أن يسألوا ابنها، فكان عجبهم أعظم، ولاموها أن تطلب أن يكلموا طفلاً رضيعاً: آية 30 "كيف نكلّم من كان في المهد صبياً".عندها خاطبهم المسيح، كما تذكر أربع آيات متتالية (30): "قال إني عبدُ الله، أتاني الكتاب وجعلني نبياً" (31) "وجعلني مباركاً أين ما كنتُ، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً" (32) "وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّارًا شقيا" (33) "والسلام عليّ يوم ولدتُ ويومَ أموتُ ويوم أبعث حيّا”.

شجرة النخل كرمز لمريم

نص هذه السورة في القرآن منح شجرة النخل دلالات مقدسة كـ"ذخيرة" ارتبط معناها بالمسيحية وبمريم خاصة في الثقافة الإسلامية. يذكر عالم البلدان الجغرافي الاصطخري (تـ.951 م) مكان شجرة النخل التي أكلت منها مريم في بيت لحم، وأما ابن عربي (تـ. 1148 م) فهو يخبرنا بأنه حين زار الأراضي المقدسة، وجد أنه لم يتبق هناك أي أثر لشجرة النخل التي أكلت منها مريم، إذ أن الحُجَّاج كانوا يقصدونها من كل صوب، ويأخذون منها قطعاً صغيرة عند زيارتها ليحتفظوا بها وليتبركوا بمريم. تأتي الثقافة المادية لتؤكد لنا أهمية مريم في التاريخ الإسلامي من خلال رمزية شجرة النخل، فقد كشفت عمليات تنقيب في بيت لحم، عن أرضية مرصعة بالموزاييك يتوسطها ثلاث شجرات نخيل، يعتقد بأنها أرضية كنيسة من عهد الأمويين، ترمز إلى قصة مريم، وهذا يتماشى مع الفن الإسلامي، الذي اعتمد غالباً التشكيل دون التصوير الآدمي. ورمزية شجرة النخل يعززها حديث منسوب إلى الرسول عن ذلك: "ليس من الشجر أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران”. وهنا كما في ذكر مريم في القرآن، تكريم لها وتعظيم لمكانتها ومكانة ابنها يسوع المسيح في الإسلام.