هو ليس حواراً  افتراضياً ، مع ان التواصل يزداد صعوبة يوما بعد يوم حتى يكاد ينقطع، ويتحول الى مرانٍ للذاكرة أكثر منه سؤال عن الواقع.

ثمة شكوك ، ثمة تحقيقات في صحة الشريط المصور الذي بث على مواقع التواصل الاجتماعي عن الانتحارية الطفلة فاطمة شداد (تسع سنوات) التي نفذت بطلب من والدها عبد الرحمن شداد عملية تفجير مركز للشرطة السورية في دمشق قبل ايام. المصدر، العنوان، اللغة، العلم، العمر، الشعار، الستائر والمفروشات النظيفة.. وغيرها الكثير من التفاصيل، ترجىء التثبت من نسبة العملية الى جبهة النصرة، التي لم تعلن حتى الآن مسؤوليتها، ولا تبرؤها.. برغم أن مثل تلك الفظاعة ليست غريبة عنها.

انها مهمة المعارضة السورية التي لا تحتمل التأجيل: تبديد الشك باليقين، من هوية ذلك "المجاهد" الذي قتل طفلته، متغطياً بالثورة والثوار، والذي لا بد أن يصبح إرساله الى السماء واجباً اخلاقياً وأنسانياً لا جدال فيه، عدا عن كونه ضرورة سياسية واجتماعية، تحفظ لسوريا وشعبها ما تبقى من معايير وقيم وأعراف وتقاليد..

لعله ليس عبثاً ان يأتي الشريط المصور والعملية المشبوهة في الوقت الذي تخوض فيه المعارضة السورية نقاشاً داخلياً  حاسماً حول مرحلة ما بعد هزيمة حلب، يبدو ان حصيلته الأولى ستكون اتحاد مجموعة من التنظيمات والتشكيلات الاسلامية في جبهة واحدة تستوعب مقاتلي النصرة، وتدمجهم في هيئاتها المرتقبة.. وهو ما ترعاه تركيا، وتشارك فيه روسيا، ولا تعارضه إيران، بوصفه أمراً واقعاً يفرض نفسه على الدول الثلاث التي تحولت إلى صانع وضامن لأي حل سياسي سوري، وعلى بقية المعنيين العرب وغير العرب بالأزمة السورية.

أياً تكن الصعوبات الجمة التي تواجه مثل هذه المساعي الهادفة الى تكوين تلك الجبهة، والتي تعزى الى تكوين التنظيمات الرئيسية الثلاثة المبادرة الى الاتحاد، فإنها لن تكون صورة محببة او مجدية أن تختتم الثورة السورية في نهاية عامها الخامس بهذا التشكيل الإسلامي الغالب، وان تغيب بقية المكونات السورية غير الإسلامية عن الواجهة، وبالتالي عن طاولة المفاوضات التي تعد للجلوس مع النظام في غضون الاسابيع المقبلة.

الصورة واقعية جداً، لأنه لا يمكن الادعاء بأن المعارضين غير الإسلاميين ما زالوا يحظون بأرض أو بجمهور سوري يسير خلفهم. وهو ما يراكم المزيد من الخسائر السياسية للثورة السورية ويقودها الى كارثة أسوأ بكثير من خسارة حلب الشرقية، التي خسرها الاسلاميون ولم يدفعوا ثمن تلك الهزيمة، بل يجري اليوم تأهيلهم ليكونوا المفاوض وربما في مرحلة لاحقة الشريك للنظام، الجاهز أصلاً لإستيعابهم، نظراً لخبرته العريقة في التعامل والتعاون مع الاسلاميين على اختلاف أشكالهم وألوانهم ومذاهبهم.

كان الخيال، وربما الوهم، يفترض أن الصراع الطاحن بين التطرفين، تطرف النظام وتطرف الاسلاميين يمكن، بل يجب، أن ينتج بديلاً ثالثاً، يحتوي جميع المعتدلين السوريين الموالين والمعارضين الذي تعبوا من الحرب وعبثيتها وكلفتها البشرية، ويئسوا من إستثماراتها المكلفة. ما يحصل الان هو العكس تماماً، والبحث عن بدلاء للمتطرفين تحول بالفعل الى مضيعة للوقت والجهد.

هذا ما أفرزته معركة حلب، وهذا ما أنتجته الأرض السورية. ولم يبق سوى الرهان على أن يصبح ملايين النازحين السوريين في مختلف أنحاء العالم، قوة سياسية مؤثرة في تشكيل المستقبل السوري بمعزل عن أمراء الحرب الموالين والمعارضين على حد سواء. وفي التاريخ نماذج عديدة لشعوب كثيرة كان شتاتها حاسماً في إنضاج وإنجاح تجاربها الوطنية.

عدا ذلك، فإن الشريط المصور لعائلة شداد ولعملية دمشق الأخيرة، لن يظل بمثابة فضيحة إنسانية وأخلاقية مدوية، بل سيتحول بالفعل الى ورقة تفاوضية جدية، لا يستطيع أحد إغفالها.