ما بعد حلب ليس إدلب كما كان يُعتقد سابقاً، خصوصاً بعد جولة الجنرال قاسم سليماني التفقدية في حلب بعد «تحريرها» من سكانها الحلبيين. مستقبل سوريا هو الهدف الملحّ والسريع. «القيصر» قرّر وحَسَم والآخرون تباحثوا وقَبِلوا. اجتماع وزراء خارجية موسكو وطهران وأنقرة في أستانة، كشف أوزان وطاقات «الحلفاء» الثلاثة، وبالتالي أهدافهم وقدراتهم على تنفيذها أو فشلهم والانكفاء إلى الممكن للإمساك به وتسجيله في خاناتهم.

موسكو أفهمت الجميع أنها قوّة دولية كبرى طامحة لإلغاء مبدأ القوّة الأحادية ولديها الإمكانات لتحقيق ذلك، وهي تريد نقطة الانطلاق من سوريا التي تحوّلت إلى الحلقة المركزية في استراتيجيتها الدولية الجديدة.

السفير الروسي الذي اغتيل في أنقرة كان يقول عندما سقط مضرجاً بدمائه في عملية إرهابية مجهولة حتى الآن: «الهدم سهل أما الإصلاح والبناء فهما الأصعب». موسكو تدرك أبعاد الحرب

في سوريا، وتعرف أن استمرارها يعني الغرق في مستنقع عميق أين منه «مستنقع الأفغنة». لذلك تلحّ الآن على ضرورة إنهاء الحرب في سوريا والدخول في مسار حلّ سياسي يوقف الحرب. موسكو تريد أيضاً أن تكون جاهزة عند تسلّم ترامب الرئاسة، لتثبيت هذا المسار حتى لا تُقدم «أميركا العميقة» المعادية لها على ضرب أي إنجاز لها في سوريا حتى لا تستقوي بهذا النجاح في أي مفاوضات قادمة سواء حول أوكرانيا أو الشرق الأوسط نفسه.

«القيصر» فلاديمير بوتين أفهم طهران وأنقرة عبر تسريبات مدروسة، أنه هو صانع الانتصارات، وأن طيرانه قام من أجل ذلك بسبعين ألف طلعة وقتل ثلاثين ألف مسلح، في حين أن طهران وكل ميليشياتها والجيش السوري المرهق لا يمكنهم مواجهة «داعش» في تدمر. الانتصارات صناعة روسية والهزائم نتيجة سورية – إيرانية. لذلك فإن الحل يكون في تغيير تركيبة النظام السوري. البداية من محادثات على الطاولة مباشرة ومن دون وسيط بين ممثلي النظام وممثلي المعارضة السورية بعد استبعاد الإرهابيين من «النصرة» و»داعش». موسكو تعمل لترتيب هذا المؤتمر. حالياً تقوم بدعوة ضباط سوريين منشقّين وقيادات محلية للاجتماع بمجموعة من المخابرات الروسية في قاعدة «حميميم»، رغم اعتراض دمشق والمعارضة الخائفة من تنظيم بديل لها، لذلك وزيادة في تطمين المعارضة السورية حتى المسلّحة منها، تُعقد اجتماعات لفصائل معارضة مع قيادات عسكرية روسية في تركيا تحت رعاية الاستخبارات التركية. موسكو تأمل أن تنتهي هذه الاجتماعات بتحقيق الاعتراف المتبادل بين الحكومة السورية والمعارضة، تمهيداً لصياغة نظام جديد متوازن. أما مصير الأسد فيُترك إلى ما بعد لأنه نقطة خلاف كبيرة، خصوصاً أن أنقرة شريك في هذا الخلاف، لأنها تريد رحيله.

في جميع الأحوال فإن قرار الأمم المتحدة الأخير رقم 2254 الذي اعترضت عليه طهران بقوّة، يفتح من خلال المحاكمة الجنائية أمام الأسد ومجموعته باب التفاوض على سلامتهم مقابل انسحابهم من السلطة وعدم محاكمتهم في المستقبل.

طهران مهما كابرت واستقوت فإنها الخاسر الأكبر في اجتماع «أستانة» وما سيلحقه. طهران كانت تعمل وتحضّر نفسها للتقدّم من حلب باتجاه إدلب، تمهيداً لإقامة ممر آمن منها إلى الشاطئ حيث تخطط لإقامة قاعدة بحرية عسكرية. أصلاً مثل هذا المشروع الإيراني يزعج موسكو، التي لا تريد أن يشاركها أحد الشاطئ السوري، فكيف بدولة إقليمية حتى ولو كانت إيران؟

لن تقبل طهران الهزيمة في مشروع مثل «سوريا الضلع الثالث القوي والمركزي في مثلث المقاومة»، لذلك لا بد أن تأخذ حقها في قلب النظام وحتى في نوع من التغيير الديموغرافي الذي يحفظ لها وجوداً طويلاً، وفي الوقت نفسه ضمانات «لابنها الشرعي الوحيد» أي «حزب الله» الذي بذل خيرة مقاتليه في معركة مهما قيل عنها لا علاقة لها بضمان الحدود الجنوبية للبنان ولا في تحرير فلسطين. طهران موجودة على الأرض بقوّة عبر جنرالاتها وميليشياتها، هذا التواجد يسمح لها بضرب أي حل بقوّة خصوصاً أنها موجودة أيضاً داخل مراكز السلطة السورية بعد الشراكة في الحرب.

أما تركيا فيبدو أنها اقتنعت بعد الضربات المتوالية التي تلقتها خصوصاً في قطاع الاقتصاد فخر «الإنتاج الاردوغاني» بضرورة تخفيض أحلامها وطموحاتها والانكفاء إلى الداخل حيث أن وضع يدها على «الباب» لاحقاً، ينهي الحلم الكردي السوري في إقامة كانتون كردي موحّد جغرافياً، وبالتالي تطمئن على أمنها القومي.

موسكو كما قال سفيرها ضحية الإرهاب تعرف أن البناء أصعب من الهدم. البناء يبدأ بإعادة المهجّرين والنازحين إلى ديارهم وإلا فإن حاملي «المفاتيح» لن يتركوا العالم كما الفلسطينيين يهنأون بالسلام.

هذا كله لا يصيغ النهايات. بعد 20 كانون الثاني يوم آخر وبدايات أخرى. الرئيس دونالد ترامب المجهول ما زال الآخرون يسبحون في عالمه المجهول. لذلك يجب حسم المئة يوم الأولى من رئاسته للبدء في قراءة الواقع بناء على معطيات واضحة وثابتة. عندئذٍ يمكن القول مَن نجح ومَن فشل؟