يبدو أنّ الحاضر اصطدم بالواقع، بعدما بَرهنَ الرئيس سعد الحريري ببراعة وكاريزما سياسية قدرتَه على استعادة قاعدته الشعبية التي ناصرَته ورافقته في كلّ المراحل الصعبة منذ العام 2005، فأثبتَت أنّها لم تنسَه رغم عتَبها الكبير عليه، واستَسلمت بمجرّد مشاهدتِها بسمةَ الأمل التي ملأت وجهَه حين جاهرَ بالقول إنّ الثروة ﻻ تَعنيه طالما صرَفها للحفاظ على الحالة الشعبية وأنّه ﻻ يأبه لِما تؤمّنه السلطة، بل مستعدّ للمغامرة بمستقبله السياسي في سبيل تخليص لبنان ووقفِ اﻻنهيار.
 

يلفت المراقبون إلى أنّ المشهد تبدّل منذ إطلالته الإعلامية التي اعلنَ فيها ترشيحَ العماد ميشال عون، إن لم يكن انقلبَ جذرياً في طرابلس والضنّية والمنية وعكار، خصوصاً بعد عقدِ المؤتمر العام لتيار «المستقبل» الذي شابهَ بحداثته وتنظيمه المؤتمرات الكبرى، لتنهارَ كلّ الرهانات على أنّ الحريري انتهى سياسياً و قاعدته الشعبية غاضبة.

وفي ضوء ما برز من تطورات على الساحة السياسية، خصوصاً بعد عودة الزعيم السنّي إلى الحكم والسراي الحكومي. وفي ظلّ الاعتراف العلني لرئيس الحكومة السابق تمّام سلام من على باب القصر الرئاسي بأنه أعاد الأمانةَ إلى أصحابها فعادت رئاسة الحكومة «حريرية» بلا منازع، عاد الحريري مظفّراً إلى القصر الحكومي الذي لم يدُم له إنّما... عاد إليه.

وفي السياق، يلفت المراقبون إلى أنّ السرّ يعود لكونِ الحريري اختار الصراحة المطلقة واللغة المبسّطة بشرح المعضلة، فقابَلته قاعدته بالعودة الى ثوابت الحريري الأب، ليس من باب الوفاء السياسي، بل من أجل التمسّك بالدولة والمؤسسات، ولذلك كان لسان حال الشهيد الوالد بأن ليس من شخص أكبر من بلده، فبقدر متاعبِ الحريري الكثيرة جرّاء الظروف الصعبة، كانت ملفتةً الغالبية المؤيّدة له، ولكن الملفت أيضاً أنّه عيّن وزيرَين من الشمال! الأمر الذي ينعكس أيضاً على استنهاض منطقة الشمال في وقتٍ أصبح الشمال يتوق لاستعادة الدولة عملَها وإنتاجَها.

في هذا المجال، يقول أحد وجهاء عكّار السيّد علي طليس لـ«الجمهورية» إنّ العلاقة الوجدانية التي تربط سعد الحريري بالشمال ليس لها مثيل، فالأمر ﻻ يتعلق بتيار «المستقبل» أو بأطرِه التنظيمية، وبنجاحه أو بتقصيره، بل بالرابط الإنساني المبني على المعاناة المشتركة من القهر والظلم».

الحريري وثقة جمهوره

عمليّاً تبقى المفارقة بأنّ عمقَ العلاقة بين الحريري وجمهوره تكسر كلّ الحواجز وتتجاوز كلّ الاعتبارات اﻵنيّة، وهي عملياً تُحدّد البوصلة للمسار السياسي الصحيح، من هنا يشدّد المراقبون على أنّ تيار «المستقبل» يستمدّ قوّةَ مشروعِه السياسي في الشارع، بصرفِ النظر عن وضعيته أكان داخل السلطة أو في المعارضة، بالإضافة إلى آليّة عمل التنظيم التي قد ﻻ تكون مرضيةً بالمطلق عند القواعد الشعبية، إلّا أنّ التجربة برهنَت أنّ الثقة المطلقة هي رأس المال الحقيقي لزعامة سعد الحريري، وعليها يتّكل في الملمّات، وهذه ميزة تُعتبَر نادرةً في الحياة السياسية اللبنانية.

لكنْ تبقى التحدّيات كبيرةً أمام ابن الشهيد رفيق الحريري، وأبرزُها:

- ما الإمكانات المتاحة أمامه لتسجيل إنجازات في ظلّ التشكيلة الحكومية الحاليّة؟

- هل يملك الحريري تصوّراً لحلّ الأزمة الماليّة التي تُرخي بثِقلها علی مؤسساته الاجتماعية والإعلامية؟

- كيف سيتعامل مع الحالات المعترضة علی نهجه وأدائه داخلَ بيئته السياسية والشعبية، وأبرزُها حالة الوزير السابق أشرف ريفي؟

تبقى الإجابة في تصوّر وعهدةِ الحريري الذي عاكسَ كلَّ التوقعات التي روّجَت بأنّه لن يعود، فعاد، وبأنه لن يتراجع عن ترشيح النائب سليمان فرنجية، فتراجع، وأنه لن يرشّح عون مطلقاً، فرشّحه! وأنّه لن يسامح «الانقلابيين» على «المستقبل»، فهل يسامحهم؟