منذ زمن، تسللت الى أذهان بعض اللبنانيين فكرة ان الفراغ الذي يوصف جزافاً  ب"الدستوري"، هو أفضل من تشكيل سلطة مبتسرة وتقاسمها بين الطوائف والمذاهب بطريق تعطل عمل الدولة والمؤسسات أكثر مما تدفعها الى ا لامام.
والواقع ان مثل هذه الفكرة ليست جديدة ، ولا ترجع فقط الى حقبة الفشل المتكرر منذ انتهاء الحرب الاهلية في بناء سلطة ودولة ومؤسسات وقوانين واحكام طبيعية، بل هي تعود الى مرحلة إعلان الكيان وتأسيس الجمهورية الاولى. في حينه، لم يكن الامر ناجماً عن خطأ في التكوين بقدر ما كان ناتجاً عن خلل عميق في العقد الاجتماعي -السياسي تتوارثه الاجيال اللبنانية جيلاً بعد جيل.
وعليه، لم يتأخر الاكتشاف بان القطاع الخاص اللبناني كان وسيبقى أقوى وأعمق وأرسخ من القطاع العام الذي لا يزال ينظر اليه بوصفه مغارة علي بابا، والذي ما بنيت الدولة اللبنانية إلا لخدمته ، فنجحت حيناً ، وفي فترة لا تتعدى السنوات القليلة من عمر الجمهورية، وفشلت بقية الاحيان وكانت النتيجة سلسلة لا متناهية من الحروب والاضطرابات الاهلية المتواصلة حتى اليوم.
الحكومة الجديدة، لا تخرج عن هذا السياق التاريخي ولا تناقضه. فهي لن تنزع من القطاع الخاص أيا من سلطاته، للصالح العام. ولن تتخطى مهمة تنظيم الصراع بين "قوى  الانتاج" غير الرسمية ، حسب التعبير الماركسي، حول المكاسب السياسية والارباح الاقتصادية والمنجزات الاجتماعية الخاصة بكل قوة من هذه القوى.
سَدُ الفراغ  هدف بحد ذاته. هو معيار لقياس الاحجام والموازين، ومدخل للاسترضاء والاستبعاد. وهذا طبيعي ، ويحصل في جميع البلدان. لكن بدرجات أقل من النفاق والخداع، وبمستوى أقل بكثير من الكذب: انها حكومة مؤقتة، انتقالية. عمرها محدد بأشهر خمسة. كل الحكومات كانت مؤقتة وانتقالية، وآخرها حكومة الرئيس تمام سلام التي عمّرت ثلاث سنوات لاسباب لن تكون غريبة عن الحكومة الحالية، بل قد تزيد سبباً إضافياً حاسماً..
اما الزعم بانها حكومة انتخابات ليس إلا، وظيفتها الرئيسية إقرار قانون جديد للانتخابات ، فلا ينطلي على أحد. في المبدأ ليس هناك قوة سياسية واحدة ترغب فعلا بالخضوع الان او في اي وقت لفحص شعبيتها ووزنها وقوتها التمثيلية. وليس هناك قوة سياسية واحدة تنوي حقا ان ترى بديلاً من  قانون الستين المشؤوم.. والا لكان الاجدى ان تتألف الحكومة من وزراء سياسيين يتمتعون بخبرة وتجربة كافية للتفرغ التام من أجل إعداد قانون انتخابي جديد خلال المهلة المتبقية وهي ثلاثة أشهر لا أكثر .. بدلاً من ان تضم وجوهاً ليس لها اي دراية بصياغة مثل هذا القانون.
لو صدق الوعد الذي أطلقه الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري ومعهما الرئيس نبيه بري،  لكان الطبيعي ان تكون الحكومة  كلها لجنة طوارىء خاصة مكلفة بإلتوافق على قانون انتخابي جديد، كان ولا يزال يشكل مدخلا إلزاميا لتطوير وتحديث النظام اللبناني العقيم.. على ان يعنى أعضاء اللجنة في أوقات فراغهم بملفات النفايات والفساد والصحة والتربية والنازحين.
لكنها حكومة العهد  الاولى، والاخيرة، التي تعكس تمثيلا صحيحاً لمختلف القوى المحلية ، وتعبر بدقة متناهية عن توازنات سياسية مختلة.. وتؤسس بالتالي لتمديدات لامتناهية من فصول الفراغ اللبناني المديد، الذي يزعم الجميع انه جرى ملؤه على عجل، ومن دون كثير من الزعل، من جانب معظم أعضاء القطاع الخاص .
وعندما تتلاحق قرارات التمديد المرتقبة، تأتي المهمة الاصعب للحكومة الحالية المدعوة للاستجابة الى النداء الرسمي السوري الصادر من الرئيس بشار الاسد شخصياً ، الخاص بالمساهمة في مرحلة ما بعد "تحرير-تدمير" حلب.. وهي مهمة لن تثير الكثير من الاعتراض ، ولا حتى النأي بالنفس، من جانب ثلثي وزرائها المختارين بعناية فائقة.