بدتْ بيروت وكأنّها «تحني رأسها للعاصفة» وهي ترصد المَشاهد المأسوية - الكارثية المتطايرة من حلب بعد سقوطها في قبضة الحملة الروسية - الايرانية العسكرية على المدينة التي شكّل «الخروج الكبير» منها تطوراً مفصلياً في مسار الحرب السورية، لن يكون لبنان بمنأى عن تداعياته، وخصوصاً في ظل مرحلةٍ انتقالية تشهد محاولاتٍ لمعاودة صوغ التوازنات السياسية في البلاد في ضوء انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وعملية تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري والتوافق على قانون انتخاب يعيد إنتاج السلطة.

ورغم الانفراج الظاهر في المأزق السياسي - الرئاسي الذي تجلى بانتخاب عون رئيساً في 31 اكتوبر الماضي بعد عامين ونصف العام من الفراغ في رأس السلطة، ومن ثم تكليف الحريري تشكيل الحكومة، التي لم ينجح في إخراجها الى دائرة الضوء رغم مرور شهر ونصف الشهر على مساعيه في هذا الشأن، فإن ثمة حرباً باردة يقودها «حزب الله» من الخلف، والهدف منها ترويض الوقائع الجديدة والعودة بها الى «بيت الطاعة» بعدما كادت أن تخرج عن السيطرة مع خلط الأوراق الذي أحدثه انتخاب عون بـ«مقويات» مسيحية - سنية.

ولم يكن عادياً في لحظة اكتمال النصاب السياسي - الدستوري لانتخاب عون الكلام الذي نُسب يومها لقريبين من رئيس البرلمان نبيه بري، شريك «حزب الله» في «الثنائية الشيعية»، عن خطر قيام ثنائية مسيحية - سنية يلوح في الأفق، وهو الكلام الذي بلغ حد التلويح بـ «حرب أهلية» قبل ان يتبرأ منه الرئيس بري، الذي قاد في حينه جبهة الاعتراض على انتخاب عون، رغم ان الأخير هو المرشح العلني لـ «حزب الله» الذي لم يكن يتوقع حصول تَفاهُم بين عون والحريري يكسر مأزق الفراغ الرئاسي.

وتتجلّى ملامح «الحرب الباردة» الرامية الى ما يمكن وصفه بـ «الاحتواء المزدوج»، في مسألتيْن أساسيتيْن هما:

• كسْر اندفاعة عون، الذي قدّم نفسه على انه «الرئيس القوي». فبعد أقلّ من شهرين بقليل تكاد ان تتبخر الآمال بإمكان تغيير «قواعد اللعبة»، فالبلاد انتقلت مع انتخاب عون من أزمةٍ بلا رئيس تديرها حكومةٌ، الى أزمةٍ مع رئيس ومن دون حكومة.

وثمة مَن يعتقد في هذا السياق ان الرئيس بري، المفاوِض الشرس بتكليفٍ من «حزب الله» وقوى «8 آذار» (حلفاء سورية وايران)، نجح في قضم هيْبة العهد في لحظة اندفاعته من خلال حرمانه من «الآلة التنفيذية» المتمثّلة بالحكومة عبر مناوراتٍ من نوعِ رمي العقدة وراء العقدة في طريق تشكيل الحكومة التي ربما تبصر النور قريباً وربما يطول انتظارها.

وفي تقدير أوساط سياسية في بيروت ان عون، الذي أبرم تفاهمات متناقضة للوصول الى الرئاسة، يتعرّض لعملية «تطويع» من حلفاء سورية وايران بعد احتضانه اللافت من المملكة العربية السعودية التي ستكون اول دولة يزورها، وربما لقطْع الطريق على ما يحكى عن «حلف رباعي» في الانتخابات المقبلة يضمّ تياريْ عون والحريري و«القوات اللبنانية» والزعيم الدرزي وليد جنبلاط.

• والمسألة الثانية هي السعي لمعاودة الإمساك بالتوازنات داخل الحكومة من خلال الضغط في اتجاه انتزاع ما يُعرف بـ «الثلث المعطل»، وهو الذي يتيح لـ «حزب الله» وحلفائه التحكم بآلية اتخاذ القرارات في الحكومة، وتالياً بإمرتها الاستراتيجية.

وبدا ان الضغط الذي مارسه الرئيس بري لإحباط تشكيل حكومة من 24 وزيراً في الربع الساعة الأخير ما قبل الاعلان عنها، والمطالبة بتركيبة من 30 وزيراً ورفْع مستوى الشروط المتعلقة بالحقائب يعكس إصراراً على توزير قوى من «8 آذار» على نحوٍ يتيح الإمساك بـ «الثلث المعطل».

ومن غير المفاجئ، في رأي دوائر مراقبة في بيروت، نجاح «حزب الله» وفريقه في تحقيق نتائج «الاحتواء المزدوج» لرئيس الجمهورية والحكومة من جراء «الحرب الباردة» الدائرة الآن. فـ «حزب الله» اللاعب الاستراتيجي في المنطقة، لن يسمح بأن تفلت اللعبة من يديه في لبنان، رغم كل ما قيل عن تفاهمات أبرمها عون مع «القوات اللبنانية» و«تيار المستقبل» تعطي الأولوية لمعاودة رسم التوازنات الداخلية بمعزل عن النزاع «الاستراتيجي» مع «حزب الله» المنخرط في حروب المنطقة.

وبهذا المعنى فإن كلام السقف العالي الذي أطلقه «حزب الله» حين اعتبر أخيراً ان «الممر الالزامي» لبناء الدولة هو إقرار قانون انتخاب جديد يعتمد نظام النسبية الكاملة وعلى قاعدة لبنان دائرة واحدة، يشي بأن المعركة الأهمّ في «الحرب الباردة» ستكون قانون الانتخاب الذي يضمن من خلال «النسبية الكاملة» مجيء برلمان تحت السيطرة، وخصوصاً أن من شأنه تقليص الحجم النيابي للحريري وجنبلاط.

والأسئلة الأكثر إثارة في هذا السياق هي: اذا كان الرئيس بري اعلن «وقف» قانون الانتخاب المعمول به حالياً (قانون الستين)، و«حزب الله» يشترط النسبية الكاملة للتفاهم على قانون جديد، فماذا عن مصير الانتخابات الداهمة والمقررة في مايو المقبل؟ واذا لم يتم الاتفاق على قانون انتخاب جديد ما مصير البرلمان الممنوع التمديد له لمرة ثالثة؟

ولأن الأسئلة تستدرج أسئلة، فهل يكون لبنان أمام أزمة نظام مع سقوط شرعية البرلمان كأقصر الطرق الى تسوية جديدة على أنقاض «اتفاق الطائف»؟... ربما بعد حلب لن يكون كما قبلها.


وسام أبو حرفوش | الراي