لا يقلّل زوار موسكو من أهمية الإنجاز الكبير الذي تحقّق باستعادتها المنطقة الشرقية من حلب مع اعترافها مسبَقاً بحجم الكلفة السياسية والدبلوماسية والعسكرية. لكنهم لا يرون في ما حصل سوى معركة من حرب طويلة. وفي انتظار تحديد الهدف المقبل لا تخفي القيادة الروسية رغبتها بإعطاء الأولوية لأمن دمشق قبل مدينتي «الباب» و«تدمُر»، الى أن تتسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مهماتها. كيف ولماذا؟تتّجه الأنظار بعد إنهاء التسويات الخاصة بإقفال ملف حلب عسكرياً الى الموقف الروسي والخطوات المقبلة التي ستحدّدها القيادة الروسية بالتنسيق مع «قيادة حميميم» لمعرفة اتجاه الريح التي تعصف بالأزمة السورية من كلّ صوب. فموسكو تنتظر أن تنتهي من الحملة السياسية والديبلوماسية التي تخوضها لإقفال الجدل حول حلب وتردداتها السلبية.

فهي تواجه هذه الأيام حملة اتهاماتٍ واسعة إقليمية ودولية تحمّلها مسؤولية ما ارتُكب من مجازر حرب في حلب وريفها وتحمّل بدرجة أقل حلفاءها المحلّيين من الجيش السوري ووحدات الدفاع الشعبي والميليشيات العراقية والإيرانية وحزب الله تمهيداً لشطب حلب من ساحة النزاع السوري في أسرع وقت ممكن كما ترغب موسكو.

والى أن تطوي موسكو صفحة حلب تبحث القيادة الروسية في أولويات المرحلة المقبلة على أكثر من مستوى. فهي تعرف أنها وبعد قطعها كلّ أشكال التفاهمات في أزمة حلب الأخيرة مع واشنطن بعد فشل مجموعة من التفاهمات التي سبقت الفصول الأخيرة من معركتها، إنصرفت الى التفاهم مع أنقرة بالأصالة عن القيادة التركية وبالوكالة عن بعض أطراف الحلف الدولي الذي يرعى شؤون المجموعات المحاصَرة في المنطقة الشرقية من المدينة.

وتعزَّز الشعور الروسي بإمكان التفاهم مع أنقرة على إمرار المرحلة الراهنة بنجاح وبأقلّ الخسائر السياسية والعسكرية الممكنة بعد نجاح التجربة الأخيرة في حلب التي ضمنت فيها أنقرة المأوى للنازحين السوريين من حلب الذين ناهز عددهم أكثر من مئة ألف ما سهّل تنفيذَ الإتفاق الأخير، وبعدما تعثّرت سلسلةٌ من التفاهمات السابقة التي أُبرِمت مع واشنطن عبر قناة التفاهم بين وزارتَي الخارجية الروسية والأميركية والتي شكّلت الأمم المتحدة طرفاً ثالثاً فيها.

على هذه الخلفيات، يقول زوار موسكو إنها تتّجه الى تعزيز علاقاتها بالقوى الإقليمية في ظلّ البرودة التي تعتري علاقاتها بواشنطن وهو ما ستترجمه القمة الثلاثية التي دعا اليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى كلٍّ من نظيرَيه الإيراني الشيخ حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان في موسكو في 27 الجاري. فالإدارة الأميركية تعيش مرحلةً انتقالية يودّع فيها الطاقم الحالي مواقعَه لتسليمها الى الإدارة الجديدة في 20 كانون الثاني المقبل.

وعليه، فإنّ زوار موسكو يشيرون الى أنّ القيادة الروسية لم تنتظر نهاية «موقعة حلب» لتحدّد أولويّاتها في سوريا. فما جرى في المراحل الأخيرة من المواجهة في حلب انعكس إعادة نظر في الأولويّات الروسية ولم تلغها.

ولعلّ التوغّل التركي في جيب جرابلس منذ تموز الماضي فرض إعادة نظر في سلّم الأولويات وزادت منها «طحشة» «داعش» في اتجاه تدمر لتشكل عنصراً إضافياً لتغييرات أوسع في أولوياتها.

ويقول الزوار أنفسهم إنّ موسكو التي أعطت تركيا في مرحلة من المراحل الحقّ بالقيام بعملية عسكرية في جرابلس تحت مسمى «درع الفرات» لمنع قيام الكيان الكردي المستقلّ الذي يمكن أن يربط بين كوباني غرباً وعفرين شرقاً على طول حدودها الجنوبية.

رأت في ما حصل أمراً إيجابياً وإلّا لما لقيت موسكو ما حصدته من تنسيقٍ تركي في حرب حلب الأخيرة تعويضاً عن غياب الحلف الدولي الذي لم يشأ التنسيق مع الروس في حربهم ضد المجموعات المسلّحة في المنطقة.

ولذلك فقد أعطت روسيا مرة اخرى الضوء الأخضر للأتراك للقيام بـ «عملية الباب» رغم معارضة النظام السوري لها سابقاً وها هي أنقرة تعزّز وجودَها في المنطقة الأمنية «الآمنة» التي أرادتها من الحلف الدولي قبل ثلاث سنوات ولم تحصل عليها إلّا بالتنسيق مع الروس والأميركيين عقب الإنقلاب الفاشل الذي تورّطت في جانب منه واشنطن كما اتهمها الأتراك قبلاً.

ويضيف زوار موسكو أنّ الروس لن يمانعوا في المستقبل القريب من أن تستعيد تركيا مدينة منبج بعد «الباب» التي يسيطر عليها الأكراد لتكتمل المنطقة الآمنة غرب مجرى نهر الفرات جغرافياً كما أرادتها بعرض 90 كيلومتراً من حدودها وعمق 40 كيلومتراً لتمتدّ فعلياً الى مدينة «الباب» التي تشكل المعبرَ الإجباري الى محافظة الرقة حيث مواقع القيادة المركزية لـ»داعش» سوريا والتي ستكون ملاذاً آمناً للنازحين من حلب وآخرين قد ينقلوا اليها للتخفيف من حجم النازحين على الأراضي التركية.

ومن هنا فقد لفت زوار موسكو الى أنها ستركّز في المرحلة المقبلة على الحضّ على إستئناف اجتماعات جنيف تزامناً مع اهتمامها بأمن دمشق
وهي ستتفرّغ بفريقها العسكري والإستشاري الى تنظيف بعض المناطق الإستراتيجية من محيط دمشق لتستتب في عهدة خبرائها والنظام. وهو ما سيتيح لها التفرّغ لاحقاً للمناطق الشمالية من تدمر «الشهيدة الجديدة» الى «الباب» و«الرقّة» فإدلب.

فموسكو تعرف قبل غيرها أنها لا يمكنها مقاربة تلك المناطق قبل أن تتسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مهماتها ولا يمكنها أن تقارب تدمر قبل أن تحاسب المسؤول عن سقوطها في ساعات قليلة ووقوع أسلحتها المتطوّرة في عهدة «داعش».

ولا قبل أن تحاسب النظام السوري على تقصير جيشه في المنطقة، من دون إغفال تحديد المسؤوليات عن عدم قدرة المخابرات الروسية على اكتشاف هجوم «داعش» عليها والتدقيق في ما ردّدته المصادر السورية من أسباب لسقوط المنطقة متهمة «داعش» باستغلال الضباب الكثيف الذي كان يلف المنطقة. ذلك أنّ من المعيب الحديث في خريف العام 2016 عن ضباب يحول دون اكتشاف حراك مئات الآليات وآلاف المسلّحين في مناطق صحراوية مكشوفة لكلّ أشكال المراقبة.