عكس سقوط مدينة حلب في يد النظام السوري وحلفائه واقعا كانت تحاول الجمهورية الإسلامية في إيران تكريسه على كافة جبهات الصراع في منطقة الشرق الأوسط وهو عدم جدوى وفعالية مقاومة المشروع الإيراني الذي ما إستلم ملف أو قضية إلا وإنتصر بها أو شارك بحصة من النصر.
 
 
هذا الواقع كرست له إيران منذ إنتصار الثورة الإسلامية فيها أدوات وعدة شغل داخل وخارج البلاد لتعبئة النفوس والعقول وزرع فكرة النصر الحتمي في الوعي الجماعي لأنصارها.
ففي أدبيات مؤيدي المشروع الإيراني لا تجد مصطلحات الهزيمة أو الإنكسار على الرغم من الفشل والإخفاقات في العديد من الملفات في المنطقة لأن في وعي وسياسة الجمهورية مسبقا هناك  خياران لا ثالث لهما : " إما النصر أو الشهادة " وكلاهما يتقبلهما الفكر الشيعي ويعتبرهما فوزا لإرتباطه بواقعة عاشوراء.
 
تفكير إستراتيجي وعقيدة واضحة:
 
مفردات النصر والفوز تشكل ماهية وغاية العقيدة الإيرانية في آن معا.
فالنصر لا بد أن يتحقق والهزيمة لا بد أن تلمع لكي تشبه نصر ما لأن إيران لا تستطيع أن تتقبل الهزيمة لإنعكاساتها على الداخل الإيراني.
لذلك ربطت إيران بين ماضي مذهبها الديني وماضي شعبها ودمجت في هذه العقيدة البعد الديني لواقعة كربلاء وإنتصار الدم على السيف ببعد تاريخي ثقافي مرتبط بالعرقية الفارسية التي سيطرت على الشرق الأوسط في الماضي البعيد.
فالتوسع والنصر الحتمي والتفكير بطريقة متدرجة  والتعاطي ببرغماتية مطلقة مع مكونات مختلفة عن مذهبها وهويتها لتحقق هدفها جعل مشروعها يمر بهدوء في المرحلة الأولى من تصدير الثورة تحت شعار القضية الفلسطينية التي من خلالها دخلت إيران إلى منزل كل عربي ومسلم.
أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة الصدام من دون تقية  وهو البعد التوسعي في التفكير الإيراني المرتبط بالنستولوجيا الفارسية، فكان الربيع العربي.
تعاملت إيران مع الربيع العربي بإيجابية مطلقة على عكس ما يروج أتباعها اليوم ووصف المرشد علي خامنائي الربيع العربي ب " الصحوة الإسلامية ".
إلى هذه المرحلة وبعد موقفها الإيجابي من ثورات العرب، كانت إيران ومن خلفها حزب الله في صدارة الإعجاب والهوس والحب عند الشعوب العربية والإسلامية فهي تبنت بوقوفها مع هذه الثورات المختلفة عنها عقائديا ومذهبيا مطالب الناس والشعوب العربية التي كانت صاحبة القرار في بداية الربيع العربي.
 
 
 
ثورة سوريا:
 
لكن هذه الإيجابية تغيرت عندما وصل هذا الربيع إلى دمشق، وبعد أن بدأت المظاهرات تعم مختلف المناطق السورية، تغيرت إيران وأظهرت ثوبها المذهبي والعقائدي.
كانت هذه اللحظة لحظة تخلي إيران عن التقية السياسية وممارسة سياسة واضحة قوامها أنها مع حليفها الرئيس بشار الأسد حتى النهاية لما يمثله من إمتداد سياسي لنفوذها في المنطقة.
بدأت تتغير نظرة العرب والمسلمين إتجاه إيران وبدت الجمهورية الإسلامية لأول مرة وبهذا الوضوح صاحبة مشروع مذهبي في المنطقة خصوصا في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومعهم البحرين.
راهن كثر على خسارة إيران بسبب هذه المذهبية وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية ولكنهم فشلوا حتى الآن.
إستطاعت إيران في سوريا خصوصا كسر أي أمل في مقاومة مشروعها حتى لو كان هذا المشروع يعارضه أكثر من مليار مسلم حول العالم فالعدد غير مهم في ثقافة شعوب أصلا لم تتقبل حتى الآن الديمقراطية وترضى بحكم الديكتاتورية والقوة.
كانت تفهم إيران ذلك جيدا وتدرك أن مشروعها لا يمكن أن يتحقق إلا بالقوة لأن البديل هو أن تتقوقع الجمهورية في حدودها القومية فقط.
كانت سوريا والمنطقة مسرحا لتجربة المشروع الإيراني الذي إنطلق بقوة معتمدة على أذرعها الطويلة في الشرق الأوسط كالحشد الشعبي وحزب الله والحوثيين في اليمن.
 
حكم التاريخ:
 
هذا المشروع هو المتقدم من دون أي لحظة شك أو عناد في الشرق حاليا.
لكن التاريخ يحدثنا أن مشاريع شبيهة بمشروع إيران إنتصرت لكنها لم تدم.
التجربة الفاطمية هي أشبه تجربة بالمشروع الإيراني وكأن  بولاية الفقيه  تستنسخ  التجربة من جديد أو تحاكيها   وتتعلم   من أخطائها.
حكم الفاطميون الشرق لمدة من الزمن وحققوا الإنتصار تلو الآخر لكن في اللحظة التي خسروا فيها القدس أمام الصليبيين بدأوا بالتراجع حتى جاء صلاح الدين الأيوبي بعد إحباط إسلامي من الصليبيين ووهن الفاطميين وإسترجع  القدس وأنهى المشروع الفاطمي معه.
كانت اللحظة التاريخية التي توحدت فيها الموصل وحلب ودمشق والقاهرة كفيلة بولادة قوة إسلامية تطيح بالفاطميين والصليبيين معا ولعل من أسباب خسارة الفاطميين القدس خسارتهم لمدن مهمة في الشرق.
هذا التاريخ يعيد نفسه الآن،  إنها إستراتيجية المدن في الفكر الإيراني لربط الشرق بسياستها ومحوريتها مستفيدة من صمت دولي.
 
ليست مؤامرة:
 
هذا الصمت مرده إلى تساهل باراك أوباما وغض نظره عن إيران.
فمعروف عن الرجل أنه كان معجب بالشعب الإيراني وتاريخه وراهن كثيرا على المعتدلين.
لكن أوباما سيرحل والقادم هو دونالد ترامب.
مدح ترامب فلاديمير بوتين وحتى بشار الأسد لكنه هاجم إيران والسعودية معا.
بشر ترامب الشرق الأوسط بخططه للقضاء على التطرف الإسلامي وتوعد إيران بالمزيد من العقوبات والتخلي عن الإتفاق النووي.
وما بين إنتخاب ترامب وتسلمه , مساحة من الوقت تستغلها إيران لترتيب وتجميع أوراقها ومنها حسم معركة حلب.
لم تنته معارك الشرق  في  العراق واليمن وسوريا ولم يستسلم فيهم المشروع المناهض لطهران.
هي لحظة شبيهة بما كان قبل سقوط القدس.
إحباط عربي وإسلامي من " خلافتي " السعودية وإيران وخطر خارجي محدق يمثله ترامب على الإثنين معا.
وتدرك إيران أيضا أن سقوط حلب هو لحظة إنتصار وليس النهاية بل البداية لما هو أصعب.
وما تعرفه جيدا أن أول خسارة لها هي  النهاية لها .
 
أسئلة لا بد من طرحها:
 
لذلك لا بد من طرح أسئلة جوهرية  حول السياسة الإيرانية وآمال نجاح  الحوار الثنائي مع السعودية.
كيف ستتصرف إيران وكيف ستتجاوب  السعودية؟
هل ستتخلى السعودية عن عنادها وتتخلى إيران عن طموحاتها؟
هكذا تجري الأمور عادة، هي ليست مؤامرة.