من نكد التاريخ اللبناني جغرافيته، ومنشأ الأحداث التي صنعت تاريخ لبنان منذ استقلاله وحتى ما قبل الاستقلال هو التدخل الإسرائيلي والسوري في الشؤون الداخلية اللبنانية على كافة المستويات وفي كل النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.
 

ذلك أن نظام الحكم في لبنان القائم على التنوع، والميثاقية القائمة على صيغة العيش المشترك بين كافة مكوناته الطائفية والمذهبية والسياسية والحزبية، والاهتمام الدولي والعربي بالبلد الذي أطلق عليه يوما سويسرا الشرق، والذي قيل في جبله هنيئًا لمن له مرقد عنز فيه، والتقدم الذي حقّقه لبنان في مجالات الاستثمار والسياحة والاصطياف، والنجاحات التي توفرت للكثير من أبنائه في بلاد الاغتراب، والتطور النوعي الذي اكتسبه في العديد من المجالات الصناعية والزراعية والخدماتية، وريادته في مختلف العلوم كالطب والهندسة وغيرها، إذ كان فيه أفضل الجامعات والمعاهد وأرقى المستشفيات والمصحات، واعتماده سياسة الانفتاح بالتوازي بين الشرق والغرب.
كلها عوامل جعلت منه موضع غيرة وحسد من قبل جارتيه إسرائيل وسوريا اللتين لم تفوّتا أي فرصة للتدخل في سياسته الداخلية وضرب عوامل الاستقرار فيه بإشعال الفتن الطائفية والمذهبية وزرع بذور الشقاق والتفرقة بين مكوناته الاجتماعية من خلال استغلال صغر مساحته الجغرافية وضعف قوته العسكرية والأمنية قياسًا إلى قوة كل منهما واستخفافهما بالقرارات الصادرة عن المنظمات الدولية كمجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان وغيرها. 
وإذا كان مفهومًا الدور الإسرائيلي في ضرب البنى التحتية للبنان واحتلال أجزاء من أراضيه باعتبار إسرائيل كيان غاصب وعدو للعرب، فالذي لا يمكن فهمه و هضمه أن تلجأ سوريا الدولة الجارة والشقيقة للتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية بغية الهيمنة على قراره السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي وتحديد مصير شعبه ورسم ملامح علاقاته الخارجية بما يتناسب مع مصالحها واستراتجيتها وتحويله إلى بلدٍ تابعٍ لها. 
فمنذ العام 1943 وعندما كان لبنان يخوض غمار معركته لنيل الاستقلال عن الانتداب الفرنسي والنظام السوري يومها أصرّ على أن تكون المعركة واحدة بحيث لا ينال لبنان استقلاله قبل سوريا. 
وعندما حاول لبنان فصل موضوع جنوبه المحتل عن الجولان في مجلس الأمن الدولي أصر النظام السوري على ربط مسألة الجولان بوضع المناطق المحتلة من الجنوب على أساس تلازم المسارين. وفي حرب تشرين بين إسرائيل والدول العربية المحيطة استطاع لبنان تحييد نفسه عن هذه الحرب ما أثار غيرة وحقد سوريا عليه فلجأت إلى عملية تسهيل أول دفعة للمسلحين الفلسطينيين إلى منطقة العرقوب ومنها إلى سائر المناطق اللبنانية، الأمر الذي كان سببًا في إشعال حرب السنتين اللبنانية الفلسطينية ومقدمة للدخول السوري إلى لبنان الذي تحول إلى احتلال دامٍ لثلاثين عامًا حكم خلالها النظام السوري لبنان بالخديعة حينًا وبالحديد والنار أحيانًا أخرى. وحتى بعد الانسحاب من لبنان فإن سوريا استفادت من تحالفها مع إيران ومن سلاح حزب الله فعمدت إلى وسيلة عرقلة سير عجلة الدولة والحكم في لبنان وذلك بفرض بدعة الديمقراطية التوافقية التي تحولت الى أداة استخدمها حزب الله لتعطيل كافة المؤسسات والأجهزة وإفراغها من مضمونها وتحويلها إلى هياكل جوفاء. 
واليوم وبعد توافق مختلف القوى السياسية الأساسية في لبنان على انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية وتأييد معظم هذه القوى للرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة والانطلاق بالعهد الجديد وتحريك عجلة السير لمؤسساته كي تقوم بوظائفها في معالجة المشاكل المتراكمة بعد الشلل الذي أصيبت به، فإن الرئيس السوري بشار الأسد يقول اليوم "أن لبنان لا يمكن أن يكون بمنأى عن الحرائق التي تشتعل حوله ويتبنى سياسة النأي بالنفس". 
وهذه دعوة واضحة لزج لبنان في أتون الحروب والصراعات العربية، وعلى قاعدة ومن الحب ما قتل فإن النظام السوري وانطلاقًا من محبته بلبنان يحاول أن يلقي به في المستنقعات والوحول العربية. وبالتالي فإن المساحة الجغرافية التي يقوم عليها لبنان مجاورًا لسوريا وإسرائيل تجعله في وضع لا يحسد عليه.