إنتظاراً لما ستحققه المرحلة الثانية من عملية «درع الفرات» التي استأنفتها تركيا برعاية مباشرة للوحدات الموالية لها لإستبيان حجم ترددات معركة حلب وجزء من الأثمان التي على أبطالها دفعها، يتمّ الفصل نهائياً بين ما آل اليه مصير حلب واستعادة «داعش» سيطرتها على تدمر ومحيطها. فما هي المؤشرات الى هذه القراءة؟بعد ساعات قليلة على الإعلان الروسي عن استعادة النظام وحلفائه أكثر من 80 % من مناطق المسلّحين في حلب الشرقية أطلقت وحدات «درع الفرات» مدعومة بقوات النخبة التركية المرحلة الثانية من عملياتها العسكرية في شمال سوريا، فسارعت الى خوض السباق الى مدينة «الباب» الواقعة عند أطراف ريف حلب الشمالي ـ الشرقي ودخلت من البوابات المؤدّية اليها من شمالها وغربها فسيطرت في وقت قصير على قريتي «الدانا» و«براتا» ومدرسة الزراعة والصوامع.

وجاء هذا التطوّر العسكري في توقيت كان منتظَراً لم يفاجئ أحداً من متتبّعي الأزمة السورية وفصولها. ففي ظلّ التحدّيات التي سبقت ورافقت التهديدات التركية بتوسيع جيب جرابلس كان النظام السوري أوّل مَن أنذر القوات التركية بالتوقف عن الدخول الى مدينة «الباب» ووجّهت إحدى الطائرات السورية المقاتلة قبل أسبوعين صاروخاً في اتجاه موقع تركي فقتل أربعة جنود فتوقفت العملية بعدها. وقد عُدّ ذلك في حينه إنذاراً روسياً ـ إيرانياً مشترَكاً نفّذته سوريا والتزمته تركيا بتجميد العمليات في اتجاه المدينة.

ولذلك ما الذي تغيّر لتستأنف تركيا عمليّتها بلا أيّ رادع من الجهة المقابلة التي اكتفت بالإشارة الى الأحداث الدائرة هناك من دون تعليق سياسي أو عسكري أو ديبلوماسي.

وتعتقد مصادر ديبلوماسية غربية وعربية متقاطعة أنّ تركيا لم تتفرّج على الضربات الجوية الروسية التي دمّرت تحصينات المعارضة السورية في شرق حلب لتسهيل سيطرة حلفائها على الجزء الشرقي من المدينة بلا مقابل، ولم تكن أنقرة في وارد الصمت إزاء ما جرى للمعارضة هناك بلا أيّ ثمن. فقد كان واضحاً أنّ المعارضة السورية وقعت ضحية تفاهمات أُبرمت على حسابها. وعبّرت عن ذلك بكثير من التهديدات التي أطلقتها في وجه الحلفاء قبل الأعداء.

ولم توفر أصواتها واشنطن وأنقرة خصوصاً من اتهاماتها بالتخلّي عنها في أصعب الظروف. الأولى بسبب انشغالها بانتخاباتها الرئاسية والثانية التي تبحث عن موطئ قدم في الشمال السوري على حساب الأكراد ووحدات أخرى معارِضة لها.

ولذلك تركت الحرّية للروس لإستخدام أعتى الأسلحة والأكثر فتكاً بالحجر والبشر ولم ترصد أيّ ردّ فعل إقليمي أو دولي على حجم المجازر التي ارتُكبت بعدما هزأت بلجوء الحلفاء الى مجلس الأمن الدولي حيث كان ينتظرهم «الفيتو» الروسي ـ الصيني القاتل.

على هذه الخلفيات قرأت مراجع ديبلوماسية وعسكرية الهجمة التركية على «الباب» أنها لتوسيع الجيب الجديد الذي بنته بين كوباني وعفرين مروراً بجرابلس ولقطع الطريق على النظام السوري وحلفائه من بلوغ الحدود التركية من جهة والمعابر الشرقية والشمالية المؤدّية الى مداخل سيطرة «داعش» في الرقة وإدلب من جهة أخرى.

بالإضافة الى الحديث الذي بدأ يتنامى عن ضوء أميركي أخضر لأنقرة تعويضاً عمّا خسره حلفاؤها في مرحلة قرّرت فيها واشنطن على ما يبدو وقف أيِّ مفاوضات مع موسكو في شأن حلب الى أن تتسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مقاليد الحكم.

وفي الوقت الذي أُعطيت العملية التركية هذه الأبعاد الخاصة المرتبطة بالتخلّي عن حلب الشرقية لم تقرأ المراجع عينها الهجوم الخاطف الذي شنّته «داعش» واستعادت فيه السيطرة مجدّداً على تدمر ومحيطها وصولاً الى ريف حمص الغربي حيث حقول «مهر» للنفط والغاز والمواقع العسكرية وقاعدتي «كويرس» و«تي فور» الجوّيتين الإستراتيجيّتين اللتين كلّفتا الجيش السوري وحلفاءه آلاف القتلى والجرحى عند استعادتهما منتصف آذار الماضي.

ثمّة مَن يعتبر سقوط تدمر ومحيطها عملية عابرة لن تطول. وأنها مجرد جولة من العنف قصدتها «داعش» للتعويض عن خسائرها بعدما تجدّدت العمليات الروسية والسورية الجوّية في إدلب ومحيطها بهدف توسيع خطوط المواجهة مع الجيش السوري وتوسيع هامش المناورة وهو ما جرى عندما استدعت القيادة السورية والميليشيات المتحالِفة معها «وحدات الدفاع الشعبي» الى تلك المنطقة لمواجهة الهجمة «الداعشية» ووضع حدٍّ لها.

مع العلم أنّ وحدات «داعش» لن تصمد في هذه المناطق التي يمكن أن تهدّد مواقع عسكرية روسية ناشئة في محيط حمص ولا سيما في قاعدة الشعيرات التي تقع في نقطة استراتيجية على الطريق الرئيس المؤدي من حمص الى تدمر والتي اقتربت من أن تكون قاعدة «حميميم 2» في ظلّ الورشة الروسية التي انطلقت قبل فترة لترميم مدارجها وتأهيلها، لتستقبل مختلف أنواع الطائرات الروسية.

وبناءً على ما تقدّم يبدو لمراجع عسكرية أنه سيكون للسيطرة على حلب ثمن باهظ على القيادة السورية وحلفائها أن يدفعوه قبل إحكام السيطرة الكاملة على شرق المدينة، وأنّ تركيا التي غضّت الطرف عن العملية الروسية نفّذت ضربتها الإستباقية في الباب لفرض أمر واقع جديد في انتظار رد الفعل الأميركي أو التهيئة لها بشكل من الأشكال ما قد يؤدّي الى احتفاظ مختلف الجبهات الجديدة التي فُتحت مجدّداً بنسبة عالية من التوتر الى وقت غير قريب ولربما الى أن تتسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مهماتها.