في 27 تموز من العام 1979، ولم يكن مضى على إسقاط شاه إيران سوى بضعة أشهر كتبتُ في جريدة السفير المقال التالي أسمح لنفسي، على غير عادتي، باستعادته، بمناسبة الحدث الداعشي الذي حصل في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية قبل أيام عندما أقدم طلاب من التعبئة في حزب الله على منع احتفال بسيط بموسيقى وأغاني فيروز. وأنقل عنوان المقال والمقال المكتوبَيْن:
 

"قد لا يكون من المبالغة في شيء اعتبار القرار الذي أصدره آية الله الخميني بمنع الموسيقى في الإذاعة والمسرح والتلفزيون، أخطر قرار اتُخذ في إيران منذ نجاح الثورة حتى الآن.
فخطورة هذا القرار غير العادية تمس مستوياتٍ أساسيّةً دفعة واحدة تتعلّق جميعها بمصير الثورة الإيرانية نفسه.
فعلى الصعيد الشعبي الداخلي، يأتي هذا القرار ليشكِّل صدمةً أكيدةً لقطاعات واسعة من الشعب الإيراني. وفي مقدمة هؤلاء الشباب الذين لا يمكن لهم تحمّل قرارٍ من هذا النوع يمس إحدى القيم الحضارية العالمية المعاصرة التي لا جدال نهائياً حول أهميتها في الحياة الخاصة والعامة.
فهذا الموقف يعني اختراقاً مبكراً جداً، بالقياس إلى عمر الثورة وإمكاناتها، للحياة الخاصة للفرد الإيراني بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وهو اختراق من شأنه، في ظرف تعاني فيه الثورة صعوباتٍ كبيرةً في السيطرة على الحياة العامة (السياسية) أن يتحوّل إلى عنصر إضعاف جدّي لعلاقتها بقطاع الشباب والقطاعات "الحديثة" عموماً، أي البورجوازية الكبرى والصغيرة... وباختصار يبدو كأنه على الصعيد السوسيولوجي قرار ضد "المدينيّة الإيرانيّة"، التي لا يجب أن ننسى لحظةً أنها هي التي صنعت هذه الثورة أساساً، لأنه كان باستطاعة "الأرياف" الشديدة التخلّف أن تظلّ غير معنيةٍ تجاه "أمر" من هذا النوع، فإن المدن بكل قطاعاتها تعتبره موجّها إلى عمق علاقاتها. هذا مع العلم أن "الأرياف" هي منبت الموسيقى الشعبية والقطاع الأكثر تذوّقاً لها.
أما على الصعيد السياسي الصرف، فمن شأن هذا القرار إثارة مخاوف أيديولوجيّة عميقة لدى القوى السياسية برمتها في المجتمع الإيراني. خصوصاً أن الشأن الأيديولوجي في المراحل الحالية الأولى من انتصار الثورة هو شأن رئيسي في المواقف السياسية المتخذة وفي السجالات الدائرة بحرارة هائلة لفتت اهتمام واستحوذت على إعجاب جميع الذين زاروا إيران في الأشهر الأخيرة، وتسنّى لهم متابعة الحوارات الغنية الدائرة في كل الأندية السياسية - الثقافية الإيرانية وخصوصاً في الجامعات.
في هذه الفترة من "الديموقراطية المسلّحة" التي أطلقَتها الثورة الإيرانية وانطلقت عبرها جميع القوى الاجتماعية والفكرية والقومية من عقالها، انطلاقاً مشروعاً بعد سنوات القمع والمصادرة الطويلة لحقوقها السياسية والفكرية في عهد الشاه، يأتي موقفٌ من هذا النوع مطلقٌ في رفضه للموسيقى ليثير أزمةً أخطرُ ما فيها أنها لن تعبِّر عن نفسها مباشرةً كما جرى أثناء أزمة "الشادور" عندما فرض الإمام الخميني ارتداء الحجاب. ثم عاد بفعل الأزمة التي نشأت عن ذلك فسمح لمن تشاء من النساء بارتدائه.
القرار في إطلاقيّته ضد الموسيقى، وفي المبررات السريعة التي أُعلِنت والتي ليست أقل سلبيةً منه من حيث آثارها، مرشّحٌ لكي يكون أول نقطة تحوّل في علاقات قوى الثورة ببعضها البعض الآخر، لأن القرار بالنسبة لهذه القوى يقول أموراً تتعدّى الموسيقى.
فهو يسمح من حيث صرامته وتناوله لمادةٍ هي من بديهيّات العصر وسماته ومحط اهتمامه الكمي والنوعي، أي أحد حقول اهتماماته الإبداعية كقيمة خلق واستهلاك، بإثارة موجة من ردود الفعل العالمية لن تتوقّف بسهولة، فالقرار من هذه الزاوية فرصة ثمينة لكل أعداء الثورة الإيرانية، المتضررين والرافضين لما مثّلته وستمثله من كسرٍ عنيف وصريح للنفوذ الأميركي والغربي في المنطقة
كي يُمعنوا في محاولة الإساءة إليها وتقديمها كطفرة تخلّف شعبية أنتجها بلدٌ من الشرق المتخلّف.
على أن أكثر ما يؤلم في معالجة هذا الموضوع، من موقع التأييد للثورة الإيرانية أن قرار منع الموسيقى هو قرارٌ على هامش المخاطر الجدية التي تحيط بالثورة الإيرانية الآن... فكيف إذا كان يخلق لها مخاطر جديدة هي بغنى عنها؟!
في تاريخ الثورة الصينية قرارٌ شبيه قضى بمنع تداول الموسيقى الكلاسيكية. ولكن هذا القرار صدر إبان الثورة الثقافية وضمن ظرف صراعي كانت الصين الشعبية برمتها آنذاك متفرغةً فيه للمسائل الثقافية. أي لكل ما يمسّ قيم الفنون والأدب والأيديولوجيا... فضلاً عن أن ذلك كان يتم بعد حوالى عشرين عاماً من انتصار الثورة أي بعدما كانت ثبّتت ووضعها وهيمنت كلية على القرار الداخلي.
... والواقع أن ثمة عنصراً مهما يساهم في حجم المفاجأة المتأتية عن القرار... هو أنه يصدر عن قيادة أثبتت حتى الآن، قبل الثورة، وبعدها، نضجاً في التكتيك السياسي لا جدال حوله، وعمقا في طرح الشعارات الداخلية والخارجية، استحوذ على إعجاب الرأي العام العالمي وأثار نقاشاتٍ واسعةً في كل مكان سواء في أوساط المؤيدين أو المتعاطفين أو المتحفظين أو المعارضين أو المعادين.
... حتى الآن لم نسمع أي تفسير إيراني رسمي للقرار، لا من "المدنيين" الموجودين في السلطة الرسمية ولا من القيادة الثورية. والطموح الفعلي بعد صدور هذا القرار لدى جميع المقتنعين بأن عصراً جديداً قد افتتحته الثورة الإيرانية في الشرق هو أن لا يصدر أي تفسير وأن يجري إقفال الموضوع من أساسه...
ومرة أخرى، ينبغي أن يُقال إن أقصى موقف متفهِّم للقرار، لا يستطيع سوى اعتباره كبوة سياسية أكيدة من كبوات الثورة لغاية الآن قرار في غير ظرفه، ولكأنه ليس صادراً عن القيادة التي استحوذت على مشاعر العالم لأشهر طويلة وكان صوتهما "الموسيقى" الملحمية للشعب الايراني الذي شحنها أكثر مما اكتفى بالإصغاء إليها... شحنها بمستقبله"؟. (انتهى المقال)
يبدو أن كل الأصوليات تبدأ داعشية. لكن من المفترض أن تتغيّر مع التجربة. حتى أبو بكر البغدادي قد نجده بعد عشرة أعوام أو أقل، يستمع مستمتعاً إلى أغاني مادونا وليونارد كوهين في الجحيم.