عندما كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يقوم بزياراته الرسمية المتكررة الى لبنان في السنوات الماضية، كان يمتنع عن تفقد المخيمات الفلسطينية حتى تلك المنتشرة في العاصمة بيروت ومحيطها، لأسباب تتصل بتاريخه الشخصي وتكوينه السياسي المناهض لفكرة المخيم ووظيفة البندقية، ما أفسح المجال لاطلاق نكتة، وصلت الى مسامعه، ومفادها انه كان يمكنه ان يطلب من مضيفيه اللبنانيين ترتيب زيارة له الى أي مخيم قريب، لا بصفته رئيساً فلسطينياً، بل بصفته صديقاً للشعب الفلسطيني ليس إلا.
بالامس تحدث عباس في المؤتمر السابع لحركة فتح، المؤسِسة للحركة الوطنية الفلسطينية، في رام الله، بوصفه ذلك الصديق الوفي والقديم للشعب الفلسطيني، لا ذاك القائد الذي وصل الى منصبه بحكم الوراثة والقرب من الراحل ياسر عرفات لا بحكم الزعامة والريادة، والذي يسدي النصائح الى الفلسطينيين، ويوصيهم بتجنب سوء السبيل..وهو ما دأب عليه منذ انطلاقة الرصاصة الاولى في العام 1965 التي حاول بكل ما أوتي من قوة ان يستردها ويعتذر عنها، من دون أن يفلح.
لم تعد مشكلة عباس مع تلك الرصاصة قائمة. فهي طوردت وضربت وحوصرت وضاعت، بحيث عاد الكفاح الفلسطيني الى الاساليب البدائية للمواجهة، السلاح الابيض وما يشبهه. وباتت المقاومة ذكرى تستعاد في المناسبات لا أكثر. حتى الجانب السلمي منها فقد جاذبيته، وإن لم يفقد جدواه طبعاً، لاسيما بالنسبة الى الحركة التي صارت تعتبره خياراً إستراتيجياً وحيداً، بعدما كانت، وجمهورها العريض، ترى فيه غدراً بالعمل الوطني الفلسطيني.
المشكلة هي في الرئيس الذي لا يتمتع بمؤهلات القيادة، مثلما هي في الحركة التي حطمتها الضربات المتلاحقة طوال ستة عقود، كما في الجمهور الذي أصابه اليأس. لم تعد "فتح" ذلك المعبد الوطني شبه المقدس، ولا الهيكل الذي يستوعب في أروقته بقية فصائل العمل الوطني الفلسطيني. أصبحت جمعية للذاكرة الوطنية، متحفاً يضم الآثار القديمة والصور والرموز السابقة، التي يخدمها موظفون تقاعدوا حتى من العمل السياسي.
لكن ذلك المتحف ما زال يحتفظ ببعض سمات الماضي وطقوسه الغريبة. كان يمكن بل يجب ان يحاذر عباس التمادي في نبذ الربيع العربي وإعتباره مؤامرة مثل سايكس بيكو، ويجامل أنظمة عربية لطالما سخرت من القضية الفلسطينية وسخرتها وطعنت الحركة الوطنية الفلسطينية  بقدر ما فعل العدو الاسرائيلي، الذي لا يزال عباس يناجيه ويساجله متجاهلاً التحولات التي طرأت على المجتمع الاسرائيلي التي تجعل من إسرائيل اليوم دولة دينية، داعشية، بكل ما للكلمة من معنى..ما يفترض ان يفقد الفلسطينيين الصبر، او يدفعهم الى التلويح بفقدانه على الاقل.
من الداخل الفلسطيني كان يتوقع ان تأتي صرخة أقوى، لا ان تصدر أمنية أضعف. كانت مخيمات الشتات، ومنها مخيم عين الحلوة المحاط اليوم بجدار الفصل العنصري اللبناني، تترقب لغة مختلفة من القائد الذي يزدري أي مخيم لكنه يعترف بوجوده كحد أدنى. لم يكن المطلوب إعلانها ثورة، ولا الاكتفاء بالتمسك بالثوابت البديهية، التي صارت تعرف بثوابت الحد الادنى. ثمة حوار مقطوع حتى مع زوار المتحف. ثمة كلام ممل عن مصالحة وطنية لا يرغب بها أحد من أطرافها.
لكن عباس لا يُلام ولا يُظلم عندما يبدو في المؤتمر انه الحارس الاخير لذلك المتحف الفلسطيني الزاخر بالتذكارات، او عندما يظهر بالفعل، وبجرأة غير مألوفة، أنه الحامي الاخير للقرار الوطني الفلسطيني المستقل. فذاك هو جوهر حركة فتح وإرثها الأهم.. الذي ما كان يجب ان يتساهل مع ظواهر فلسطينية مريبة نشأت من داخلها، وهي بمثابة إختراقات عربية وإسرائيلية راهنة لاستقلالية ذلك القرار، تعيد الى الاذهان الانتهاكات البعثية السورية والعراقية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
بهذه المهمة وحدها يمكن ان ينال عباس بعض المغفرة وبعض الرحمة عندما يسدل الستار على الادارة الحالية للمتحف الوطني الفلسطيني.