ما زال مصير الحكومة مجهولاً، وليس في مسار التأليف المعقّد والصراع المحتدم بين إرادة التعجيل والتعطيل، ما يؤشّر إلى ولادة وشيكة، أو ولادة سليمة تُخرج إلى النور حكومةً يُراد لها أن تكون كاملة المواصفات. وما بين إرادتَي التعجيل والتعطيل، يَستفحل الملل أكثر فأكثر من جرّاء التجاذبات السياسية والتباينات حول أكبر الأمور وأصغرِها. فحركة التأليف تبدو مفَرملة ولا جديد فيها سوى القول «ما زالت الاتصالات جارية»، من دون أن تظهر لهذا الكلام أيّ ترجمة عملية على أرض الواقع.الجميع يقِرّون بوجود تعقيدات، ومع ذلك ينأون بأنفسهم عنها ويتبرّأون منها، وجميعهم من دون استثناء يُظهرون تسلّحهم بإرادة التسهيل والتعجيل، لكن في الترجمة تبدو إرادة التعطيل أو التأخير هي الأقوى والغالبة على كلّ شيء، وأمّا أصحابها فمجهولو الهوية، فيما القوى السياسية على اختلافها مشغولة بإلقاء تهمة التعطيل على بعضها البعض، ما يَرسم صورة قاتمة عن الآتي من الأيام.

والسؤال الذي يتردّد على كلّ لسان: مَن الذي يعطل التأليف ومن هو صاحب المصلحة في هذا التعطيل؟ وأكثر من ذلك، هل يَسلك التأليف المسار السليم الذي يمكن أن يولد بدوره حكومة سليمة يُراد لها أن تكون كاملة المواصفات وتمتلك الحد الأدنى من القدرة والإمكانات للتصدي لكلّ الأزمات والملفات التي ترهِق الناس في حياتهم وعيشِهم وأمنِهم واقتصادهم.

ويبدو واضحاً أنّ المشكلة ناجمة عن صراع إرادات، وبصرف النظر عن هوية المعطِّل أو المعطِّلين، ودوافعهم وأسبابهم السياسية أو الكيدية أو المصلحية الكامنة خلف الوضع المتعمّد للعصيّ في دواليب التأليف، فإنّ الجواب البديهي الذي يفرض نفسَه وسط هذه الأجواء، هو أنّ البلد معطل، وهذه حقيقة ليس في إمكان أيّ مِن المعنيين بالتأليف، ومهما حاوَل أن يجَمِّل الصورة، أن ينكرَها أو يخفيها أو ينفي أنّ البلد هو المتضرر الوحيد من صراع الإرادات هذا، والمنطلق من سياسة قاصرة، تعمي نفسَها عن رؤية حقيقة واقع البلد وخريطة توازناته وحساسيتها، أو نظرة أحادية الجانب لا ترى إلّا مصالح ضيّقة ومِن بَعدها الطوفان.

إنتظار الأسئلة

في المحصّلة، لا جديد حكومياً، سوى أنّ مهلة تلقّي الأجوبة النهائية من الأطراف السياسية حتى يوم الجمعة المقبل، حول موقفها النهائي من الصيغة الحكومية التي سيتمّ اعتمادها، وعلى ضوئها تُبنى الخطوات التالية، والتي قيل انّ الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري توافَقا عليها قد شارفَت على الانتهاء من دون ان يبرز ما يؤشر الى حسم هذه الاطراف لمواقفها، خصوصاً انّها جميعها ما زالت متمترسة خلف ثوابتها ومطالبها، وكلّ منها يلقي المسؤولية على الآخر.

في هذا السياق لم تعكس معلومات بعبدا إيجابيات نوعية، ولم تفرط في التفاؤل، بل عكسَت حالاً انتظارية لِما ستبادر به سائر الاطراف، مع اشارتها الى انّ الاتصالات ما زالت جارية على اكثر من خط، لتذليل العقد المتبقية.

والانتظار نفسُه سائد على خط تيار المستقبل الذي اكّدت مصادره لـ«الجمهورية» أنه وبعد التصريح الذي أدلى به الحريري من قصر بعبدا لم يطرأ أيّ مواقف جديدة من باقي الفرَقاء، كما ليس هناك أيّ جديد بالنسبة الى حلحلة ازمة التأليف، إنّما الاتصالات ما زالت مستمرة ولم تتوقف في سبيل حلحلة العقَد. وأمّا عين التينة فما زالت تنتظر أن يتصاعد الدخان الأبيض من مدخنة بعبدا وبيت الوسط.

واللافت في هذا السياق انّ اجواء المراوحة على خط التأليف بَعثت الملل لدى رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط فأطلقَ تغريدةً معبِّرة اكتفى بالقول فيها: «الأشغال.المالية@حركة املcom.، خلصونا بقى».

من يَقبل يقبل!

وقالت مصادر مواكبة للتأليف لـ«الجمهورية» إنّ فكرةً تمَّ تداوُلها في أوساط «التيار الوطني الحر» تقوم على توزيع الحقائب السيادية والأساسية على القوى السياسية الأسياسة وإعلان الحكومة على أساسها، فمن يقبل يقبل، ومن يرفض يكُن قد استبعَد نفسَه بنفسه.

لكنّ هذه الفكرة استبعِدت لأنّ الرد عليها كان أنّ حكومة أمر واقع من هذا النوع من شأنها أن تُحدث أزمة في البلد لمجرّد أن يعترض عليها فريق بمفرده، فكيف إذا اعترض عليها أفرقاء عدة لهم وزنُهم وحضورهم السياسي وغير السياسي الفاعل.

وكشفَت هذه المصادر أنّ الحريري عرض على عون في لقائهما الأخير أن يُسند حقيبة وزارة الاتصالات لتيار «المردة» مقابل إسناد حقبة وزارة التربية إلى تيار «المستقبل»، فتركَ هذا الاقتراح إلى حين عودة الوزير جبران باسيل من الخارج الجمعة المقبل.

واعتبرَت المصادر موقفَ رئيس مجلس النواب نبيه بري المتمسّك بـ«الحقائب الشيعية» ولا سيّما منها المال والأشغال، القائمة في حكومة تصريف الأعمال التي ستكون الحكومة الجديدة نسخة منقّحة عنها، بأنه موقف محِقّ، وينسجم مع تشبّثِ الأفرقاء الآخرين بالحقائب التي يتولّونها في الحكومة الحالية، وتحديداً الخارجية والداخلية، فكيف يُطلَب منه التخلّي عن أيّ من هذه الحقائب فيما الآخرون يتمسكون بحقائبهم، والذي يريد ان يؤلّف فعلاً عليه ان ينظر بعينَين إثنتين لا بعينٍ واحدة.

وفي هذا السياق يؤكد متفهّمون لموقف رئيس الجمهورية أنّ مسار التأليف لم يقفَل بعد، خصوصاً أنه ما زال في مراحله الأولى والطبيعية التي لا تخلو من تشنّجات وآراء وأفكار وشروط متبادلة.

إلّا أنّ هؤلاء المتفهّمين يلقون الكرة في ملعب بري الذي يمتلك، في رأيهم، مفتاحَ تسهيل التأليف وأنّ في استطاعته ان يكون أكثر مرونةً في التعاطي مع هذا الملف، خصوصاً أنّ هناك مصلحة مشتركة في التعاطي مع العهد الجديد بروحيّة التعاون الجدّي الذي ألزَم الجميع أنفسَهم به. وعكسَ هؤلاء ايضاً إرادةً إيجابية لدى عون وقد عبّر عنها صراحةً أمام رئيس مجلس النواب في اللقاءات التي جَمعتهما بعد انتخابه رئيساً للجمهورية.

برّي

وهذه الإيجابية بدت واضحةً في عين التينة، حيث كرّر بري التشديد عليها أمام زوّاره أمس، وقال إنّ علاقته برئيس الجمهورية «أكثر من جيّدة ولا يشوبها شيء يعكّرها، بل على العكس، التقينا وكانت الاجواء ممتازة وما زالت كذلك».

وأكّد انّه ما يزال ينتظر ايّ مستجدّات على خط التأليف، مشيراً إلى «أنّ الكرة، وخلافاً لِما يروّجه البعض، ليست في ملعبي، بل في ملعب من يَعنيهم الأمر وهم يَعلمون كيف يمكن أن يوجِدوا المخارج».

وردّاً على سؤال عن اتّهامه بالتعطيل، قال بري: «لستُ في موقع المتّهَم أبداً، وأنا سبقَ لي ان قلتُ للرئيسَين عنون والحريري إنّني أريد الحكومة مبارح قبل اليوم».

وعندما قيل لبري أنّ هناك من يحدّد مهَلاً معينة نهاية هذا الأسبوع لتقديم الأفرقاء أجوبتهم النهائية على التأليف، سارَع إلى القول: «أنا لا أُهَدّد ولا أخاف إلّا الله».

وبحسب أوساط عين التينة، فإنّ حالاً من الاستغراب يسودها جرّاءَ ما يتردّد في بعض الأوساط المعنية بالتأليف عن اتّفاقات مسبَقة حصلت حول وزارة الأشغال وتنازل بري عنها لهذا الطرف أو ذاك. وأكّدت هذه الاوساط «أن لا عِلم لها بهذا النوع من الاتفاقات، لا بل هي ليست معنية بها ولا بمَن يقول إنّها قد حصلت، المشكلة عندهم.

الرئيس بري أكّد للحريري عندما سأله عن الحصّة التي يريدها، فأكّد له: المال، الأشغال، الصناعة، الشباب والرياضة، وأضاف عليها طلب «الزراعة»، لكنّ الحريري لم يكن متحمّساً للأخيرة، وكان موافقاً على الأربع الأوَل بلا أيّ نقاش.

موقف «القوات»

وقالت مصار «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية» إنّ «العهد الجديد هو عهد جديد بكلّ معنى الكلمة، وإنّ الأزمة القائمة تتجاوز الخلافَ حول الحقائب، وهي من طبيعة استراتيجية وتتّصل بالآتي:

أوّلاً، منعُ الرئيس عون من محاولة بناء الدولة.

ثانياً، مِن الواضح أنّ مواصفاتهم للرئيس بأنّه يُفترض أن يكون مقاتلاً في حلب لا رئيساً للجمهورية في لبنان.

ثالثاً، يَخشى الفريق المعطل للعهد من أن يكرّس انتخاب عون موازين قوى سياسية داخلية جديدة غير مسبوقة منذ العام 1990 إلى اليوم.

رابعاً، الفريق المعطل لانطلاقة العهد غير معتاد على رئيس جمهورية قوي ومتماسك ويفاوض بشكل نِدّي مستنداً إلى صلاحياته الدستورية وقوّة تحالفاته، ويَرفض أيّ مساومة على علاقته مع هؤلاء الحلفاء وفي طليعتهم «القوات اللبنانية»، كما أنّه غير معتاد على رئيس يمارس دورَه كشريك فعليّ في تأليف الحكومات.

خامساً، السبب الأساس للمواجهة الحاصلة اليوم يكمن في محاولة تكريس الأعراف المعتمَدة منذ العام ١٩٩٠ إلى اليوم في ظلّ دفعِ الرئيس عون لتطبيق اتّفاق الطائف ورفضِ العودة إلى الترويكا.

سادسا، في سابقة فريدة من نوعها يبدأ الحديث عن الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أيام على انتخاب عون، ما يؤشّر بشكل واضح الى انّ هذا الفريق الذي يُعدّ علناً فرنجية للرئاسة يوجّه رسالة مباشرة الى عون بأنّه مستاء من سياساته وتَموضُعه ومواقفه، وينتظر اللحظة لانتخاب خلفه.

سابعاً، الرسائل السياسية الموجّهة ضد العهد أدّت وتؤدي إلى تعطيل التأليف وضربِ الدينامية الوطنية الإيجابية التي تولّدت مع انتخاب عون وتكليف الحريري».

«المردة»

من جهته، قال الوزير السابق يوسف سعادة لـ«الجمهورية» إنّ «التمثيل في الحكومة المقبلة بحقيبة أساسية هو مطلب محقّ لتيار المردة، وليس عقدة»، موضحاً «أنّ مَن يعتبر هذا الطلب عقدةً فهذه مشكلته وعقدته، فحصول تيّار المردة على حقيبة من ثلاث؛ الأشغال والصحة والاتصالات، هو مطلب محقّ في موسم الكرم الزائد لباقي الأحزاب والتيّارات».

المطران رحمة

وفيما تعكسُ أجواء بكركي استعجالَ البطريرك الماروني الكاردينال ما بشارة الراعي تأليفَ الحكومة، قال راعي أبرشية دير الأحمر وبعلبك للموارنة المطران حنّا رحمة لـ«الجمهوريّة» إنّ «المصلحة الوطنية تتطلّب تأليفَ الحكومة لمواجهة التحدّيات المطلوبة».

وأوضَح أنّ هناك «في السياسة تكتيكاً واستراتيجيّة، فالتكتيك يعني أن يحصل شدُّ حبال خلال التأليف، ومحاولة كلّ فريق تحصيلَ مكاسب، وهذا أمر مشروع لأنّنا ما زلنا ضمن المهلة المقبولة، أمّا الاستراتيجية فتعني عرقلة التأليف شهوراً لضربِ العهد، وعندها لن نسكتَ ولن نقبل بتعطيل انطلاقة عون، لأنّ هناك آمالاً كبيرة عند الناس معلّقة عليه».

وقال رحمة: «في حال تبيّنَ أنّ هناك مثلَ هذه الخطّة التعطيلية، فعلى عون والحريري اللذين يملكان الحكمة الكاملة ألّا يَستسلما للتعطيل ويقوما بالواجب وفقَ ما ينصّ عليه الدستور، خصوصاً أنّهما جوجلا مواقفَ كلّ الكتل»، لافتاً إلى أنّ «الأوضاع تغيّرَت، وعلى الجميع أن يعلم أنّ عون ليس رئيساً صورياً أو «خيال صحرا» في بعبدا، وبإمكانه استعمال الإمضاء الذي منَحه إياه الدستور خدمةً لمصلحة البلد، وكلّ القوى تَعلم هذا الأمر، و«حزب الله» وحركة «أمل» أيضاً».

ودعا جميعَ الذين يحاولون التصويبَ على اتّفاق «التيار الوطني الحرّ» و«القوّات اللبنانية» وضربَه، أن «يذهبوا «ويتسلّوا بغير شي»، فهذا التفاهم بات يملك من المناعة ما يؤهّله أن يتحدّى كلّ الصعاب ويَصمد، خصوصاً أنّنا كمسيحيين شبِعنا حقداً وكراهية، وقد أتى هذا التفاهم تطبيقاً للتعاليم المسيحية التي تدعو إلى التقارب، ولن يستطيع أحد ضربَه، لأنّ زمن استضعاف المسيحيين قد ولّى، ولا يَحلم أحد أنّ باستطاعته بعد الآن الاستقواء على المسيحيين وشرذمتهم والسيطرة على حقوقهم، فهُم موحّدون أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ولن تدخلَ الفتنة بينهم مجدّداً».

الحوار الثنائي

ووسط كلّ هذه الأجواء، انعقدت جلسة الحوار الـ 37 بين «حزب الله» وتيار «المستقبل»، في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، بحضور: المعاون السياسي للأمين العام لـ«حزب الله» حسين الخليل، الوزير حسين الحاج حسن، النائب حسن فضل الله عن الحزب، ومدير مكتب الرئيس سعد الحريري السيّد نادر الحريري والوزير نهاد المشنوق والنائب سمير الجسر عن تيار «المستقبل». كما حضَر الوزير علي حسن خليل.

وأعلنَ المجتمعون أنّهم «بَحثوا في تطوّرات تشكيل الحكومة وضرورة إنجازها بأسرع وقتٍ ممكن للاستفادة من المناخات الإيجابية في البلد. كما تناوَلوا موضوع إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية وإجراءَها في موعدها.