تمهيد:

 يطيب لكثيرين اليوم النيل من تاريخ المناضل فيدل كاسترو الذي غيبه الموت منذ أيام، كما يطيب للبعض كيل المدائح له، والتعلّق بصورة نمطية للمناضل الذي نذر حياته لخلاص الإنسان والشعوب من الاستغلال الرأسمالي والاجتياح لكرامة شعوب بأكملها بواسطة الاستعمار بوجهيه العسكري والاقتصادي. وتتراوح دعوات التبجيل من جهة والقدح والذم من جهة ثانيه بين ما خلّفه كاسترو وراءه من إرث ديكتاتوري استبدادي شمولي، زرع الفقر والتخلف والاستبداد في الجزيرة الكوبية، وبين صموده الأسطوري في المحافظة على استقلال الجزيرة وإبعادها عن "مخاطر" النفوذ الأميركي، والذي هو، وكما هو واقع، لم يزرع حيث تغلغل في مسام أميركا الوسطى والجنوبية سوى الفقر والتخلف ،فضلاً عن الاستبداد المشكو منه في كوبا. 

أولاً: نجاحات الليبرالية

غزت الليبرالية العالم واخترقت بُناه ،وحققت نجاحات كبيرة منذ قرنين من الزمن، فترسخت أسس نموذجها الاقتصادي (الرأسمالية) ونموذجها السياسي (الدولة العلمانية الحديثة)، وحقّ لها أن تفاخر في نموذجها السياسي، حيث تتعزز مفاهيم الديمقراطية وإرادة الشعوب في اختيار ممثليها السياسيين، وهذا يتطلب طبعاً وجود آليات تداول السلطة، واحترام تطبيقاتها. وترسخت أقدام الليبرالية في العالم الغربي، أوروبا وأميركا الشمالية، العالم الغربي "المتمدن المتحضر"، بعد أن سيطر على موارد الكرة الأرضية في الجنوب بواسطة الاستعمار المباشر وغير المباشر.

عانت الليبرالية من اعتراضات حقيقية من المركز "الاشتراكي" قبل انهيار المنظومة السوفياتية، ومن الاشتراكية الأوروبية قبل "استسلامها" ، وبقيت الصين وجنوب شرق آسيا وكوبا محافظة على مقاومتها وكفاحها، وامتاز "العالم الثالث" بصدارة الكفاح والممانعة للتغلغل الرأسمالي الاستعماري في بلدانه، ورغم استفحال الفقر والتخلف والبطالة وزيادة النمو السكاني ،وغياب التخطيط المترافق مع الديكتاتورية وفساد الأنظمة، فقد عرف هذا العالم "النامي" تيارات فاعلة استنهضت ذاكرتها الحضارية والثقافية والدينية لمقاومة النهج الليبرالي المترافق مع الاستعمار بكافة أشكاله، ولم تيأس هذه التيارات (وربما حتى الآن) ورغم الهجمة الأصولية الدينية من البحث عن نموذج حضاري جديد، يتلاءم مع ملامحها الفكرية والثقافية والدينية، وحتى مع  مفاهيم الليبرالية الديمقراطية من جهة، ومع التراث الإشتراكي الحي في ضمائر وأذهان قطاعات واسعة في العالم الثالث. وهذا يعني فيما يعنيه أنّ الليبرالية لا تستطيع أن تعلن انتصارها النهائي والشامل، طالما أنّ قسماً من البشرية (ومنهم الراحل كاسترو) ما زال يتشبث بالنظام الاقتصادي الموجّه ، وقسمٌ آخر يقاوم الدعوة العلمانية بفكرة تجديد الصلة بين الدين والسياسة، وآخر يقاوم الديمقراطية التمثيلية بالديمقراطية المباشرة، وهذا يعني أيضا أنّ ثقافات عديدة في هذا الشرق المترامي الأطراف ترفض الإنفصال عن نفسها وتتمسك بهويتها الثقافية والحضارية.

ثانياً: كاسترو لم يمت

لم يمت كاسترو، لم تتحقق ادعاءات الليبرالية، وهاهي الصراعات الدموية تغرق العالم بالدماء والخراب، ومصانع الأسلحة لا تهدأ عن الضجيج ليل نهار، لم تستقم العلاقة بين الفكرة والتاريخ كما تصورها هيجل بتفاؤله المعهود، وحصل الإنفصال المريع بين منظومة الأفكار الليبرالية (الحرية، المساواة، العدل، التقدم، سيادة العلم) وبين التجربة التاريخية المتعيّنة ، فقد تطورت الحرية (للأسف) إلى فوضى وعدوان، فخرج الاستعمار كاعتداءٍ على الشعوب من رحم الليبرالية، وبقيت المساواة السياسية والاقتصادية حكراً على المركز الغربي، ولم تصلنا منها سوى شذرات متفرقة لم نتمكن من الإفادة منها، لذا ظلّت الماركسية التي قدمت نفسها كوريثة لأفكار الثورة الفرنسية (الحرية والمساواة) حيةً عند قطاعات واسعة في الجنوب، الذي ما زال يكافح للخروج من دوامة التسلط الغربي، وهذا يفضي إلى أنّ الشحنة الإيديولوجية لاطروحة كاسترو في رفض الهيمنة الغربية ما زالت قائمة، ولا يعني إخفاق كاسترو وأمثاله في تحقيق العدل والقضاء على الفقر والتخلف ، المسارعة في التشنيع على النظام "الاشتراكي"، فهذا النظام الموعود سيبقى قبلة شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية، ولا أحد يستطيع أن يستأصل من وعي الناس توقها الأبدي للحرية والعدالة والمساواة والسلم والأمان والرخاء، ورفضها المطلق للاستبداد والاستغلال والحروب والقمع واستباحة ثقافات البشر وخصوصياتها وحضارتها، لم يُوفّق كاسترو واقرانه بتحقيق أحلامهم، ولاقوا فشلاً ذريعا، وهذا لا يستحق أن يُبنى عليه نقد الاشتراكية أو قياسٍ لها، خاصة أنّ القاعدة الفقهية تنصّ على أن لا قياس مع الفارق.