الباحثون الكبار في أميركا والشخصيات التي تولّت مراكز مهمة في الادارات المتعاقبة يعرفون دور أحداث الشرق الأوسط والعالم في إضعاف نفوذ دولتهم. ولعل عودة الفكر الإنعزالي الى الأميركيين أوصلت دونالد ترامب الى رئاسة الجمهورية. وهو رغم جهله السياسي يطرح عناوين دراماتيكية تُخرج بلاده من أوروبا وحلف شمال الأطلسي والشرق الأقصى والشرق الأوسط ومناطق أخرى.
وقد حاول بعضهم منذ أشهر التعرّض لهذا الموضوع، ومنهم زبيغنيو بريجنسكي، بدراسة جديّة جداً مفيد تلخيص جوهرها للقرّاء. فهو يتحدث في بدايتها عن حقائق خمس تتناول التوزيع الجديد للقوى السياسية العالمية وعن "اليقظة السياسية" العنيفة في الشرق الأوسط، ويشير الى دور ذلك في الاصطفاف الدولي الآتي.
الحقيقة الأولى هي أن الولايات المتحدة لا تزال الأقوى في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. لكنها لم تعد القوة الامبريالية العالمية جرّاء التغيّرات الجيوسياسية في موازين القوى الاقليمية.
والحقيقة الثانية هي أن روسيا تعيش آخر مرحلة متشنجة من الانتقال السلطوي فيها. فهي مبدئياً ليست ممنوعة من التحوّل دولة أوروبية قائدة إذا تصرّفت بحكمة. لكنها حالياً تنقّز بعض الدول التي كانت تابعة لها في جنوب غرب أمبراطوريتها الشاسعة السابقة، وكذلك أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا ودول البلطيق.
والحقيقة الثالثة هي أن الصين تنهض وتتقدم بثبات وبطء في آن لتصبح مساوية لأميركا وربما مُنافِستها. لكنها حريصة هنا على عدم تشكيل تهديد واسع لها وبلا تحفّظ. ويبدو أنها تبحث عسكرياً عن خرق تحقّقه في مجال صناعة أسلحة من جيل جديد، وتعمل بصبر لتعزيز قوّتها البحرية التي لا تزال محدودة.
والحقيقة الرابعة هي أن أوروبا ليست الآن ولا يحتمل أن تصبح قوة عالمية شاملة (Global). لكنها تستطيع أن تقوم بدور قيادي بنّاء لمواجهة التهديدات العابرة للحدود والمفيدة للصالح العام والبقاء الإنساني. فضلاً عن أنها داعمة للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وعن أن الثبات والوفاء الأوروبيين داخل حلف شمال الأطلسي مهمان للتوصل الى تسوية بنّاءة للأزمة الروسية – الأوكرانية.
أما الحقيقة الخامسة والأخيرة فهي أن اليقظة السياسية العنيفة الحالية لمسلمي ما بعد الحقبة الاستعمارية تعود بجزء منها الى القمع الأوروبي القاسي لهم. كما أن فيها شعوراً بالظلم مع تعبئة دينية توحّد عدداً كبيراً من المسلمين ضد العالم الخارجي. علماً أن ذلك لا علاقة له على الإطلاق بالإنقسام بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة.
انطلاقاً من ذلك يلفت زبيغنيو بريجنسكي في دراسته الى أن الحقائق الخمس المذكورة أعلاه تقول لنا ان على الولايات المتحدة أن تتولى القيادة في إعادة هندسة القوة العالمية الشاملة بطريقة تجعل احتواء العنف المندلع في العالم الإسلامي والمنعكس عنفاً خارجه وكذلك في ما يسمى العالم الثالث ممكناً من دون تدمير النظام الدولي السائد. وفي هذا العمل تستطيع أميركا أن تكون فاعلة في التعامل مع العنف الحالي في الشرق الأوسط إذا شكلت تحالفاً دولياً يضم وبدرجات متفاوتة روسيا والصين. وللنجاح في ذلك يجب ثني روسيا عن الاستعمال الآحادي للقوة ضد جيرانها وخصوصاً أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق. كما يجب أن تتحرّر الصين أو أن تُحرَّر من فكرة أن الأنانية السلبية في وجه الأزمة الاقليمية الصاعدة في الشرق الأوسط ستكون مُجزية لها سياسياً واقتصادياً حيث لها طموحات واسعة في العالم. ذلك أن هذه الأندفاعات السياسية القصيرة النظر يجب أن تدخل في رؤية (Vision) بعيدة النظر.
ويلفت بريجنسكي أيضاً الى أن روسيا أصبحت للمرّة الأولى في تاريخها دولة قومية. إذ بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية (قبلها القيصرية) استقلت "الأمم" الأقوى التي كانت جزءاً منها. وصار هذا الأمر يُستعمل ضدّها. ولذلك فإن مستقبلها يتوقّف حالياً على قدرتها على التحوّل دولة قومية رئيسية ونافذة وجزءاً من أوروبا الموحّدة. أما الصين فعليها التحلّي بالصبر ومعرفة أن الاستعجال السياسي سيؤدي الى ضياع اجتماعي. وأفضل تمنّ للصين هو أن تصبح في المستقبل القريب شريكة رئيسية لأميركا في احتواء الفوضى العالمية كالتي تنتشر في الشرق الأوسط وخارجه. إذ أن الفشل في ذلك سيصيب روسيا وأقساماً من الصين. علماً أن من مصلحتها أن تؤسس علاقات جيدة مع دول وسط آسيا وجنوب غرب آسيا مثل باكستان وإيران على أن يكون ذلك بالتفاهم مع أميركا.