الانطباع السائد في الشرق الأوسط وربما في مناطق مجاورة له أن نظامه الإقليمي الذي وضعته له بريطانيا "العظمى" وفرنسا قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي قد انهار، بعد نحو خمس سنوات من "الربيع" الذي سطع في عدد من دوله العربية بانتفاضات وثورات شعبيّة على الأنظمة الديكتاتوريّة الحاكمة فيها، تحولّت لاحقاً ثورات مسلّحة ثم حروباً أهلية ذات طابعين ديني ومذهبي استولت على قيادتها جماعات ومنظّمات إسلاميّة متشدّدة جدّاً فزرعت العنف والارهاب فيه ووزّعته على العالم من خلال النازحين العرب وغير العرب إليه والمجموعات المسلمة المقيمة فيه.
والانطباع الآخر السائد أيضاً في الشرق الأوسط هو أن نظاماً إقليمياً جديداً سيحل مكان الذي انهار. لكن أحداً لا يعرف موعد ذلك لأن العنف الناجم عن الثورات والحروب الأهلية والارهاب قد ينتقل إلى دول أخرى فيه تعاني مشكلات مُشابهة. كما أن أحداً لا يعرف إذا كان التغيير الذي سيحدثه الجديد المرتقب سيحصل داخل كيانات النظام القديم بحيث يشمل أنظمتها السياسية وتقسيماتها الإدارية وأدوار "شعوبها" أي طوائفها ومذاهبها وإثنياتها، أو سيغيّر جغرافية هذه الكيانات وينُشئ أخرى بدلاً منها قد تكون أكبر أو أصغر حجماً من سابقاتها.
لكن الانطباع الذي بدأ يتكوّن في المنطقة أيضاً، وربما في العالم ولا سيّما الدول العظمى والكبرى فيه، هو أن انهيار النظام الإقليمي في الشرق الأوسط قد بدأ يؤثّر على "أساسات" النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي شريك أميركا في الزعامة الثنائيّة للعالم منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية عام 1945، والذي جعل من الشريك الأميركي زعيماً وحيداً للعالم. فالفراغ السوفياتي في أوروبا الشرقيّة وحتى حدود روسيا ملأه الشريك الأميركي، كما ملأه في العالم العربي والإسلامي إلى حدٍّ كبير. لكن واشنطن عجزت خلال سنوات انفرادها في الزعامة العالميّة عن إحداث تغيير جوهري في العالم الأخير يُحسّن حياة شعوب دوله في كل المجالات، وتعاملت معها أو بالأحرى مع الانظمة الحاكمة فيها التي يوحّدها الاستبداد وتفرّقها مصالح الحكّام وليس مصالح الناس. أو ربّما لم تشأ المغامرة على هذا الصعيد خوفاً من الفشل لأنها أساساً لم تمتلك إرادة التغيير بل الكلام الداعي إليه. كما لم تمتلك استراتيجيا تحقيقه والسياسة التطبيقيّة التي يفترض أن تلازمها. فضلاً عن أنها استمرّت في تجاهل وجوب حل لب أزمة الشرق الأوسط أي قضية فلسطين أو نكبتها التي بدأت رسمياً قبل 68 سنة، كما في تجاهل أن استمرارها بلا حل بل أن الانحياز الظالم إلى مُسبّبها وهو اسرائيل وحليفاتها في الغرب كان أحد أبرز أسباب الارهاب الذي شهدته المنطقة والعالم والحروب منذ 1948 والذي استمرّ إلى اليوم ولكن بأسماء مختلفة. علماً أن الجذر واحد وهو ظلم الفلسطينيّين أي ظلم العرب وظلم أكثريّتهم المسلمة وأقليّتهم المسيحيّة، وأيضاً ظلم المسلمين غير العرب المنتشرين في كل أصقاع العالم. وإذا كان إرهابيّو هذه المرحلة البادئة من زمان لم يذكروا في "جهادهم" فلسطين إلّا لماماً ومتأـخرين، فإن ذلك لا يعني أن ظلم شعبها واغتصاب أرضه لا يبقى مقيماً في لا وعيهم مع فترات قصيرة من الانتقال إلى الوعي لديهم.
والمقصود بذلك الإشارة إلى أن ربيع الثورات والحروب الأهلية والمذهبية أعاد روسيا الدولة الأكبر والأقوى والأهمّ في الاتحاد السوفياتي المنهار إلى الشرق الأوسط من "البوّابة" السورية و"البوّابة" الإيرانية و"البوّابة" الإسرائيلية، وإلى أنه كشف وَهْن أميركا الناجم لا عن ضمور قوّتها العسكريّة والاقتصاديّة والتكنولوجية المتفوّقة على العالم كلّه وبما لا يُقاس، بل عن فشل إداراتها المتعاقبة وخصوصاً في عهدَيْ جورج بوش الإبن الجمهوري وباراك أوباما الديموقراطي. فالأوّل كان يجهل خارج أميركا تماماً باستثناء المكسيك يوم بدأ حكمه. فخضع لمجموعات محافظة ذات "أجندات" مؤذية لبلاده وللعالم، وفجّر الشرق الأوسط بغزوه الناجح عسكريّاً والفاشل في كل شيء بعد ذلك للعراق، واضعاً بذلك حجر الأساس لعملية انتهاء النظام الإقليمي البريطاني – الفرنسي. والثاني عمل جيداً داخل بلاده وفهم جيّداً مشكلات الخارج وخصوصاً المسلم منه، لكنه لم يمتلك الجرأة عندما بدأ "الربيع العربي" وعندما صار شتاءً عاصفاً مدمّراً ولا الخطة ولا الاستراتيجا للقيام بما يلزم، فانهارت المنطقة وسار النظام الدولي أي الأميركي المُنفرد بزعامة العالم نحو الضعف. وهو الآن على طريق التشكّل من جديد.
هل في الغرب وتحديداً في أميركا من يعرف ذلك أو يشعر بحدوثه؟