وصل عبد الحميد كرامي إلى قلعة راشيا، وكان منهَكاً وبثيابه الداخلية، في وقتٍ كان مساء راشيا بارداً جداً، فأسَرّ كرامي لصديقه كميل شمعون بالتالي: «عزيمتي قوية للغاية لكنّني أشعر ببرد شديد يا كميل»، فسارَع شمعون إلى حقيبة الثياب التي أصرّ على توضيبها قبل المغادرة مع العسكريين وعرَض على عبد الحميد بزّةً على الطراز الغربي، وبما أنّ كرامي كان يشتهر بزيّه العربي، سأله شمعون إذا كان يُمانع ارتداءَها فأجابه «يشرّفني»...خلع كرامي زيّه العربي مرةً واحدة ونهائية من راشيا متوجهاً الى صديقه كميل شمعون بالقول " جئت الى راشيا عرياناً فكسوتموني بثوب الوطنية.يبتسم استقلال لبنان بعد بلوغه عامه الثالث والسبعين، لكنّه يبتسم بخجل بعد استفاقة من سُبات طويل وحلمٍ جميل لينصتَ بشوق إلى الأقاصيص الأحبّ إلى قلبه، وهي أقاصيص وطرائف تُروى عن مآثر رجالات الاستقلال الأوّل، كانت لا تزال مخبّأة، بحيث تنشر «الجمهورية» عدداً منها، وبتجرّد، عن لسان أبناء وبنات هؤلاء الأبطال الخالدين، ليضيفوا على الرواية نكهةً إضافية خاصة، فتصبح تلك المآثر موثّقة بيضاء، مثلها مثلُ تاريخهم.
 
 
يُروى عن الرئيس كميل شمعون، أنّه كان ملكَ الأناقة وكان يهتمّ بهندامه لدرجة أنه يومَ اعتقاله رفضَ الخروج برفقة العسكر الفرنسي من دون توضيب حقيبته، وهو الذي علمَ بأنّ مدة الاعتقال ستكون طويلة، لذا وضّبَ حقيبة ملابسه مثلما يُحبّها أن تكون، مليئة بما يُبرز أناقته بما فيها البزّات الرسمية.
 
عن والده، يقول رئيس حزب «الوطنيين الأحرار» النائب دوري شمعون إنّه كان استثنائياً. ويَستذكر أنه وبعد اعتقاله هرَع إلى الخارج وحاولَ إعاقة السيارات العسكرية التي كان يقودها العسكر الفرنسي عبر رميِ «دبشٍ من الحجارة على الطريق»، كاشفاً أنّه غالباً ما كان يستعمل تلك الحيلة مع رفاقه فيبسطون «الدبش» على الطرقات التي تسلكها الآليات الفرنسية في منطقة الاشرفية، خصوصاً الآليات الكبيرة مِثل الشاحنات.
 
ويوم الاعتقال يَروي شمعون أنّه قدّم إلى «المعتقِلين»، «النقّيفة» الخاصة به قائلاً لهم بعدما فتّشوا المنزل بدقّة وفشلوا في إيجاد أيّ أسلحة: «ربّما تنفعكم هذه». وقد أضاف مخرجاً «النقّيفة» من جيبه: «قد يحتاجها جيشُكم».
 
فهبّ أحد العسكريين محاولاً صَفعه، لكنّه أحجم بعدما تحرّكَ الرئيس كميل شمعون ومَن حوله اعتراضاً على مسلكِه مع ولدٍ لم يبلغ الحادية عشرة من العمر.
 
أمّا عن ذكرياته مع والده فيعلّق عليها شمعون بأسى، قائلاً إنّه لم يكن يقضي وقتاً طويلاً معنا، لأنّ همّه الأوحد كان لبنان والقضية التي ارتبَط بها ارتباطاً أزَلياً، فلم يفارقها يوماً لينصرفَ إلى غيرها، وحتى إلى أولاده. ويشدّد على أنّ الاستقلال كان ليبتسمَ أكثر بعدما استردَدناه لو كان كميل شمعون ما زال حيّاً، ولم نكن لنصلَ إلى ما نحن عليه اليوم.
 
بشارة الخوري « اعداء مالكشِ ... مالكشِ أصحاب كتير
 
بعد جهدٍ كبير، قبلَ الشيخ ميشال الخوري ابنُ رَجل الاستقلال الرئيس بشارة الخوري بالكلام، بعدما تمنّعَ في بادئ الأمر، ومع إصرارنا، روى: «كان والدي يحب القراءة ويطالع كثيراً وبأكثر من لغة، وكان ضليعاً في اللغتين الفرنسية والعربية، كما أنه كان يحفظ الكثير من الأشعار اللاتينية واليونانية التي تَعلّمها في المدرسة، وهو تخرّج من باريس في كلّية الحقوق من بين القلائل من الطلّاب اللبنانيين».
 
رفاق الرئيس خوري من الفرنسيين الذين عاصَروه سألوه يوماً عن معنى اسم بشارة الخوري؟ فأجاب: «بشارة معناها Annonciation والخوري يعني خوري curé فأسموه Annonciable de curé، كما أطلقوا عليه هذا الاسمَ عند تخرّجِه بامتياز.
 
أمّا ابنُ الشيخ بشارة الخوري، الشيخ ميشال الذي يبلغ عمره تسعين عاماً تخاله شابّاً وهو يتحدّث بشغف عن هواية والدِه المحبّبة والتي كانت تلاوة أبيات الشعر وحتى غناء «القرّادي»، لافتاً إلى أنّ الرئيس بشارة الخوري لو لم يكن رئيساً للجمهورية لكان ممكناً أن يكون كاتباً أو مؤرّخاً عظيماً أو شاعراً.
 
ويشير إلى أنّ صهرَه كان ماسونياً وصاحبَ ثروة كبيرة لكنّه بخيل، وكان يدّعي بأن لا أعداء لديه، فكان والدي يقول له «إذا كنتَ تقول أنّك منخرط في الحقل السياسي، فمِن المفروض أن يكون لديك أعداء». وقد نظّم له «قرّادي» تقول: «إن أعداء ما لَكْش ما لَكش صحاب كتير».
 
وزارة الدفاع تتربّع على علب سيجار «المير مجيد»
 
أمّا المير مجيد أرسلان، فتتحدّث عنه ابنتُه الأميرة زينة أرسلان، فتؤكّد أنّه بعكسِ مظهره القاسي، كان والداً حنوناً عليها وعلى أخوتها، لكنّه لم يتعاطَ في تربيتنا، لأنّ السياسة أخذته وكانت شغلَه الشاغل. وتروي الأميرة زينة للجمهورية «كنّا نَصعد إلى المجيدية كلّ يوم أحد عند بيت جدّي «رشيد البرامية» برفقة الوالدة خولة أرسلان، لكنّنا لم نكن نراه خلال الأسبوع إلّا نادراً».
 
وتضيف أنّها تتذكّر جيّداً مبنى وزارة الدفاع التي كان يصطحبهم غالباً لزيارتها مع أخواتها، وكان يرافقه عنصران فقط من الجيش اللبناني (السائق والمرافق) وليس ثكنة من الجيش مِثل هذه الأيام.
 
وتشير في هذا السياق إلى أنّ والدها كان لديه نوع من العبادة لِما يسمّى «جيش لبناني»، وكان يَعتبر عناصرَه مثلَ أولاده، ويَعتبر نفسَه من مؤسسي المؤسسة العسكرية، وأنّه ركنٌ من أركان مباني وزارة الدفاع التي ساهم وشهد على بنائها.
 
وتؤكّد أنّه كان يعطف على عناصر الجيش «ونِحنا شربنا وربِينا على هذه الفكرة». وتضيف: «كنّا أنا وإخوتي نفرح عندما نرى العناصر تتأهّب وتؤدي له تحيّة القائد.
 
وفي إحدى المرّات كلّف أحد عناصر الجيش التابعين لمكتبه اصطحابَنا في جولة في أرجاء مبنى وزارة الدفاع في اليرزة، فأخبرَنا العنصر عن طرفةٍ حصلت أثناء عملية بناء الوزارة. فالمير مجيد معروف بحبِّه لتدخين السيجار وتحديداً سيجار من نوع Montecristo حيث كان يشرب 5 علب خلال اليوم الواحد».
 
وتضيف: «أخبرَنا العنصر أنّ والدي كان يَجمع علب السيجار ويضع داخلها بطاقتَه الشخصية ويوقّعها بخط يدِه ثمّ يَرميها بين الباطون الجاهز خلال عملية بناء وزارة الدفاع لكي تبقى طوال العمر للذكرى».
 
وتقول الأميرة زينة ضاحكة، إنّ المبنى يضمّ اليوم علباً كثيرة من السيجار الخاصة بوالدي، لافتةً إلى أنّ أخاها الامير طلال أطلعَ قائد الجيش العماد جان قهوجي على هذه المعلومة، قائلاً: «علبُ سيجار والدي «مجبولة» مع إمضاءاته في أساسات وزارة الدفاع».
 
وتُخبر الأميرة عن والدها الذي كان «إنساناً منفتحاً، فتقول: تُخبرنا والدتي الأميرة خولة أنّ إطلالاتها الإعلامية والسياسية ما هي سوى خير دليل على رغبة المير مجيد واندفاعه وتشجيعه لانخراط المرأة في الحقل السياسي والاجتماعي العام».
 
الزعنّي لكرامي «إبن الكرامي أين العمامة ؟!»
 
يروي المهندس معن كرامي لـ«الجمهورية» تفاصيلَ اعتقال والده الزعيم عبد الحميد كرامي، لافتاً إلى أنّ عشية تاريخ اﻻستقلال من العام 1950 صَدف القدر أن يكون أيضاً ذكرى رحيله التي تلا فيها وصيتَه الأخيرة.
 
عبد الحميد كرامي هو النائب الوحيد الذي أصدرَت سلطات اﻻنتداب الفرنسي الأمرَ باعتقاله نظراً لمعارضته الشرسة ومطالبتِه باﻻستقلال وبقدرته على إشعال الشارع بمظاهرات ضخمة.
 
فعند الساعة الثانية فجراً استفاق قاطنو قصر كرم القلّة، دارة آل كرامي، على جلبة شديدة وأصوات انفجارات، حيث تبيّن أنّ دبّابة من دبابات اﻻنتدابات اقتحمت بوّابة القصر وخلعَتها إفساح المجال أمام «العسكر السنغالي» الذي يشكّل قوّة اﻻنتداب الفرنسي في الشمال للدخول، على صوت قرقعةِ السلاح. بدأ التفتيش في الطابق الأوّل على وقعِ سؤال وحيد؛ أين عبد الحميد كرامي؟ وقد شملَ البحث كلّ الأمكنة بما فيها تحت الأسِرّة، ما دفعَ شقيقتَه «يسر» إلى رَكلِ أحدِ جنود اﻻنتداب صارخةً «عبد الحميد كرامي ﻻ يختبئ تحت الأسِرّة».
 
إنتقلَ الجنود الى الطابق الثاني حيث زوجتُه السيّدة يمن علم الدين وبناتها وولدها عمر الذي لم يبلغ بعد الثماني سنوات، فيما أخواه: رشيد في مصر ومعن في بيروت، ليسألها أحدهم بعد تفتيش دقيق عن مكان عبد الحميد، فكان الجواب أنّه موجود في بيروت. عندها انتزعوا ابنَها الرئيس الراحل عمر كرامي من حضنِها وحاوَلوا ترهيبَه في غرفة مجاورة، للاعتراف، فبقيَ على أقوال أمّه «أبي في بيروت وﻻ نَعلم تفاصيلَ أكثر من ذلك».
 
ويقِرّ معن كرامي بضعف أحد الحرّاس الذي أفضى إلى اعترافه بأنّ عبد الحميد كرامي موجود في بلدة مرياطة، لتغادرَ القوّة المقتحمة إلى هناك فوراً. لكن وبدلَ اﻻقتحام الفوري، تسلّلت القوّة إلى غرفة عبد الحميد حيث كان نائماً، وعند إشعال النور في وجهه ارتطمَ جبينُه بالحربة في رأس البندقية ما سبّبَ جرحاً بسيطاً، فحملوه بفراشه كاملاً وهو بثيابه الداخلية نحو إحدى الشاحنات، واقتِيد إلى قلعة راشيا».
 
في الطريق، رمى أحد الجنود قطعةَ قماش لكرامي حتى يضمّد جرحه، فظنّ بأنّ هدف العملية خطفه واغتياله، فصرَخ فيهم «نموت وعيوننا مفتّحة لأنّنا أصحاب حقّ وﻻ نخاف من الموت، وأرجوكم إطلاق النار سريعاً لأنني ﻻ أريد التفكير بأولادي وأخاف من ضعفِ النفس البشرية».
 
عبد الحميد كرامي كان آخرَ رجالات اﻻستقلال الذين وصَلوا معتقَلين إلى قلعة راشيا، وكان منهَكاً وبثيابه الداخلية، في وقتٍ كان مساء راشيا بارداً جداً، فأسَرّ كرامي لصديقه كميل شمعون بالتالي: «عزيمتي قوية للغاية لكنّني أشعر ببرد شديد يا كميل»، فسارَع شمعون إلى حقيبة الثياب التي أصرّ على توضيبها قبل المغادرة مع العسكريين وعرَض على عبد الحميد بزّةً على الطراز الغربي، وبما أنّ كرامي كان يشتهر بزيّه العربي، سأله شمعون إذا كان يُمانع ارتداءَها فأجابه «يشرّفني».
 
خلعَ عبد الحميد كرامي زيّه العربي لمرّةٍ أولى ونهائية، في قلعة راشيّا، وكانت له جملةٌ شهيرة صرّح بها بعد الإفراج عنه فقال: «جئت إلى راشيا عرياناً فكَساني أخي وصديقي كميل شمعون بثوب الوطنية».
 
أمّا الشاعر الساخر عمر الزعنّي فقد علّقَ بطرافة على الأمر متسائلاً: «إبن الكرامة له علامة، فيا إبن الزعامة أين العمامة؟»، فردّ كرامي بطرفةٍ مماثلة: «بنِعمة اﻻستقلال خلَعنا اللفّة والطربوش».
 
ويَختم معن كرامي كلامه بتأثّر، ويقول: «في ليلةِ رحيله في 22 تشرين الثاني استفاقَ عبد الحميد كرامي من غيبوبته في مستشفى الجامعة الأميركية على أصوات الأسهم النارية احتفالاً بذكرى اﻻسقلال، وكانت وصيته الأخيرة لأبنائه: «اﻻستقلال أغلى ما نملك في هذا الوطن، وأوصيكم بالمحافظة عليه، كلّفنا دماءً وتضحيات وسجناً ونفياً واعتقالاً في سبيل إنجازه، فلا تفَرّطوا فيه أبداً... وسلامي لكلّ الأصحاب».