رئيس مجلس النواب نبيه برّي، يصرّ على أن يكون وزير المال في الحكومة الأولى للعهد الجديد من طائفته، ويتمسّك بشاغلها في الحكومة المستقيلة علي حسن خليل. ورئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون أو بالأحرى "تيّاره" يصرّ على "المداورة" في الحقائب. ويؤيّد ذلك حزب "القوات اللبنانية" والبطريرك الماروني بشارة الراعي. أما السُنّة و"تيار المستقبل" فيؤيّدون هذا الموقف ضمناً. لكنّهم يتريّثون في الإفصاح عنه حرصاً على تذليل العقد الحكوميّة، وربما لأنهم يريدون مشكلة بالناقص مع الشيعة و"الثنائية" التي لولاها ما كان زعيم "التيار" سعد الحريري كُلّف تأليف الحكومة. أما "حزب الله" الشريك الأقوى في "الثنائيّة" نفسها فلم يحرّك ساكناً حتى الآن لحلّ هذه العقدة. اكتفى بتفويض شريكه برّي التعاطي مع تأليف الحكومة. ولم يبدر منه ما يشير حتى الآن إلى اعتراض على تنفيذ التفويض واستعداد للتدخّل الايجابي. ويوحي ذلك أنه موافق ضمناً على ما يقوم به شريكه.
إلى ماذا يستند برّي في تمسّك الشيعة بحقيبة المال؟
إلى "اتفاق الطائف"، الذي لا يتضمّن أموراً أخرى اتفق عليها البرلمانيون اللبنانيون المجتمعون في السعودية عام 1989 وعلى عدم نشرها، ومنها تخصيص وزارة المال بالطائفة الشيعية كي تصبح بتوقيع من يتولّاها شريكة في السلطة التنفيذية المحصورة بمجلس الوزراء. لكن الرئيس برّي الذي تحوّل القطب الشيعي الأوّل بعد دخول مجلس النواب أول مرة ثم بعد رئاسته إيّاه، وهي لم تنقطع حتى الآن، لم يعترض على تولّي وزراء غير شيعة حقيبة المال أكثر من مرّة. ولم يُثَر في الاعلام هذا الموضوع كما يُثار اليوم. ويدفع ذلك مؤيّدي "المداورة" إلى التمسّك فيها. لكن تفسير الاستنكاف الشيعي في حينه عن الإصرار على هذا المطلب كان بسبب وجود سوريا في لبنان ودورها الأول في كل شأن لبناني. وكان أيضاً بسبب امتناع "عرّاب الطائف"، الرئيس حسين الحسيني رئيس مجلس النواب في ذلك الحين، عن الخوض في هذا الأمر رسمياً وإعلامياً، علماً أنه الوحيد على الأرجح، الذي يحتفظ بمحاضر مناقشات الطائف. والامتناع مستمر اليوم رغم أن عقدة "المداورة" (المال) تكاد أن تثير فتنة في لبنان. ولذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو لماذا الامتناع؟ ولا أحد يمتلك جواباً عنه. لكن الذين عايشوا مرحلة ما بعد الطائف مباشرة وقبلها مرحلة الحرب يظنّون أن الحسيني لم ينسَ بعد الإنقلاب على رئاسته "أمل" الذي أحلّ نبيه برّي مكانه. ويظنّون أيضاً أنه لم ينسَ ما فعله معه "حزب الله" يوم قرّر الاشتراك في الانتخابات النيابية وكذلك سوريا إذ فاز وحده دون الأعضاء الآخرين في لائحته رغم أنه كان "بطل الطائف". ولاحقاً انتُخب برّي بدلاً منه رئيساً لمجلس النواب. طبعاً تطوّر مواقف الرئيس الحسيني بعد ذلك معروف، ودفع به في النهاية إلى الاستقالة من مجلس النواب وإلى الاقتراب من الوطنيّة غير الطائفيّة وغير المذهبية التي يقدّرها الكثيرون، لكنهم يعرفون أنها لا تُطعم خبزاً في السياسة اللبنانية.
هل استمراره ممتنعاً عن نشر محاضر اجتماعات "الطائف"، أو عن وضعها في "المتحف" إذا انتهى "الوفاق الوطني" الذي أسّسته، أو في الأرشيف الرسمي للدولة في محلّه؟
لا يمكن الجواب بنعم أو بلا. لكن يمكن الإشارة إلى أن الرئيس الحسيني، وهو صديق عزيز، صار مضطرّاً للتخلّي عن الصمت. فالرئيس برّي أكد أن نواب لبنان في الطائف خصّصوا الشيعة بوزارة المال، والزميل الرصين نقولا ناصيف قال نقلاً عنه، أي الحسيني، السبت الماضي ومن على شاشة الـ MTV "أن المجتمعين في الطائف أقرّوا ثلاثة أمور لم تنشر رسمياً في "الوثيقة". وهي عدم جواز نزول عدد أعضاء الحكومة عن 14، وعدم جواز تولّي رئيس الحكومة حقيبة وزارية إضافة إلى موقعه، وتخصيص الشيعة بحقيبة المال".
طبعاً قد لا يحلّ ذلك العقد الحكومية الأخرى. لكنّه يسهّل حلّها إذا كانت النيّات صافية، إلّا إذا كانت للممثلين الكبار للطوائف أهداف مُضمرة غير المُعلنة وأكثر راديكاليّة منها، أو إذا أصابت بعضهم الحيرة وبعضهم الآخر المخاوف، أو إذا عادت الطموحات المستحيلة إلى بعضهم الثالث. وفيه مسيحيّون كما فيه مسلمون ومن كل المذاهب. وهي طبعاً لن تُحلّ بالتذاكي وبرمي مسؤولية التعقيد أو التعطيل على الإعلام الذي ينقل عادة ما يسمع. علماً أنه ليس قليلاً أيضاً عندما يتحوّل أداة.