أولاً: العظمة ولوثاتها
تبدأ العظمة بلوثة بسيطة وتتفاقم مع تعاظم إنجازاتها حتى تبلغ درجة الجنون، كان الفراعنة المصريون قد وصل بهم الأمر إلى حافّة الألوهية، فهذا الملك الذي يملك الحجر والبشر، لماذا لا يحوز نعمة الخلود؟! وعندما حدّت الحداثة الأوروبية بأنوارها وعلومها وفلسفتها من "جبروت" الله، ووضعتها في "عنجهية" الإنسان، وأرست دعائم "النزعة الإنسانية" محل "العناية الإلهية" طغت هذه النزعة وأفرزت النازية والستالينية في النصف الأول من القرن العشرين وعشرات ملايين الضحايا في أنحاء المعمورة.
في بلادنا التي كانت تحت سيوف السلاطين العثمانيين، خرجت بعد الحرب الأولى من سطوتها لتدخل في وصاية الدول الاستعمارية الأوروبية، وصاية بالمعنى الفعلي على قاصرين، قبل أن يأتي الحكام العسكريون فيتربّعوا على عروشهم لمدة تفوق النصف قرنٍ من الزمن، والحقّ يقال أنّهم كانوا رجالاً عظماء بدون إنجازات عظيمة، من عبدالناصر إلى بورقيبة إلى بومدين إلى النميري إلى السادات إلى صدام حسين إلى حافظ الأسد، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم الزعيم الليبي معمّر القذافي الذي اكتملت عنده العظمة بجنونٍ مشهود صبح مساء، فليبيا أصبحت في عهده الجماهيرية العظمى، والنهر الذي أنفق عليه مليارات خيالية سمّاه "النهر الصناعي العظيم"، والكتاب الأخضر الذي ألّفه، ولا يساوي الحبر الذي كُتب فيه، صار هو الذي يُتلى صبح مساء في البلاد عوضاً عن القرآن الكريم، عبر الإذاعة المرئية وهذا اسمها.
ثانياً: لوثة العظمة تصيب التنظيمات والأحزاب
في أساس لوثة العظمة عند القوميين العرب والقوميين السوريين والبعثيين الاعتقاد بعظمة الأمة السورية والعربية، وما لبثت هذه العظمة أن تركّزت في شخص القائد أو الزعيم: أنطون سعادة ،جمال عبدالناصر، صدام حسين، حافظ الأسد، زين العابدين بن علي، معمر القذافي، وعند بعض الأحزاب التي تتوهّم أدوارًا أضخم من بُنيتها وطاقاتها، فإنّها تذهب أيضاً إلى تعظيم القائد والمؤسّس (بيار الجميل ونجله بشير في الكتائب)، وكميل شمعون في حزب الوطنيين الأحرار، وكمال جنبلاط في التقدمي الاشتراكي، والسيد موسى الصدر في حركة المحرومين، وفي أيامنا هذه تتركّز العظمة في حزب الله، حيث تتعاظم أعراضها بدءاً من حرب تموز عام ٢٠٠٦ واجتياح بيروت عام ٢٠٠٧، وصولاً إلى المساندة العظيمة للنظام السوري منذ أكثر من أربع سنوات، وادّعاء الفضل في صمود النظام وبقائه لهذه المساندة، حتى انتخاب الرئيس عون رئيساً للجمهورية بإصرارٍ غريب دام ثلاثين شهراً، إلى استعراض القصير العسكري، والذى حارت البريّةُ فيه، ولعلّه يدخل في باب لزوم ما لا يلزم، أمّا لطمية المطار (سواء نُسبت للحزب أو لغيره) فهي تقرُبُ من لوثة الجنون، إن لم تكن الجنون بعينه.