عام 1992 قاطع تمّام صائب سلام الانتخابات النيابيّة الأولى بعد الحروب التي عصفت بلبنان تضامناً مع مقاطعة المسيحيّين لها التي قرّرتها غالبيّة قياداتهم وفي مقدّمها بكركي و"القوّات" و"الكتائب" وآخرون. وأرجأ ذلك دخوله الاحتراف السياسي من "بوّابة" مجلس النواب، كما عرّضه لعقوبات عدّة من سوريا حافظ الأسد. لكنّه لم يتذمّر ولم يتلُ فعل الندامة أمام دمشق وحلفائها في لبنان رغم أنّه كان يشكّ في صوابيّة المقاطعة، بل تصرّف بِكِبَر وصبر وكرامة معتبراً أن ما فعله كان لإعطاء اللبنانيّين الانطباع أن الحرب الطائفيّة بين المسلمين والمسيحيّين انتهت، ولاستعادة مرحلة قديمة من العمل السياسي العابر للطوائف والمذاهب والديانات.
وعندما دخل الحكومة وزيراً بعد ذلك بمدّة، وعندما أوصله البيروتيّون ممثّلاً عنهم إلى الندوة النيابيّة، ترسّخ اقتناعه بما فعل في السابق وقرّر الاستمرار في نهجه. ظهر ذلك جليّاً يوم كُلّف تأليف الحكومة في أواخر ولاية الرئيس ميشال سليمان. إذ لم يستعجل وصبر على المطالب والمطالب المضادة، وتغاضى عن الإساءات والإساءات المضادة ونال في النهاية حكومته التي أطلق عليها إسم "حكومة المصلحة الوطنية". وبدلاً من أن تنتهي مهمّته ومهمّتها بعد أشهر بانتخاب خلف لسليمان في رئاسة الجمهوريّة استمرّت ثلاث سنوات وأكثر لتعذّر إجراء هذا الانتخاب، ووجد نفسه مُضطرّاً وحكومته إلى ممارسة صلاحيّاته وصلاحيّاتها وصلاحيّات الرئاسة الأولى في وقت واحد. وكان ذلك أمراً صعباً ودقيقاً ومرهقاً ومحفوفاً بالأخطار. إذ أن ما يفرّق اللبنانيّين صار أكثر مما يجمعهم وأكثر عمقاً، وصار الحياد بينهم غير مقبول لأنّهم لم يتركوا للصلح مطرحاً بعدما تحوّلوا أسرى لتحالفاتهم الإقليميّة ووقوداً للحروب بالواسطة المباشرة وغير المباشرة التي اندلعت في محيطهم. وبعدما كانوا مؤمنين دائماً بأن سياسة التوافق على أساس "لا غالب ولا مغلوب"، شعار والده الرئيس الراحل صائب سلام، هي الحل مالت غالبيّتهم إلى سياسة الحسم والانتصار. لكن تمّام سلام تصرّف منذ بداية الشغور بروحية تصرّفه عام 1992. لم يشأ تطبيق الدستور حرفيّاً بتطبيق نصوصه على الحال المستجدّة حكوميّاً، ليس فقط لأن أطرافها المنقسمين والمتناقضين أصرّوا على بدعة التوافق الاجماعي حتى بالتوقيع على كل شيء يصدر عن مجلس الوزراء، بل لأنّه أراد تطمين المسيحيّين إلى ضرورة إنهاء الشغور بانتخاب رئيس ماروني سريعاً، وإفهام المسلمين على انقسامهم أن مصلحتهم تقتضي ذلك أيضاً. كنت من جملة مُنتقدي الرئيس سلام على هذا الأمر لأن الجشع إلى السلطة والمكاسب والمزايدات دفع كل الوزراء إلى اعتبار أنفسهم رؤساء جمهوريّة، فتعطّلت الحكومة ومجلسها ومعهما مصالح الناس، واكتشف اللبنانيّون أن الفساد هو الأمر الوحيد العابر للطوائف والمذاهب في الحكومة وخارجها، ولا أزال. وكنت من مُنتقدي صبره حتى على الإهانة رغم أنه كان يردّ عليها. لكن في قرارة نفسي كان هناك شيء يخفّف الانتقاد أو الاستمرار فيه هو معرفتي أن موقفه وطني وتعايشي هادف إلى إبقاء الاستقرار الأمني على هشاشته، وأنه يتعذّب كثيراً.
لماذا الكتابة عن تمّام سلام رغم عدم اقترابي منه كثيراً بعدما صارت حكومته مستقيلة أو على بعد ساعات منها؟ أولاً لكي يقدّر اللبنانيّون أنه رجل قِيَم، وأنه ليس رجل فساد رغم معرفته بحصوله وبمرتكبيه وبعجزه عن وقفه، وأنه رجل العيش المشترك الفعلي أو بالأحرى رجل العيش معاً كما كان يقول الراحل فؤاد بطرس. وثانياً لكي يعرف رئيس الحكومة الأولى للرئيس عون ماذا ينتظره ويحدّد أسلوبه للمعالجة أو للمواجهة، كما لكي يعرف أن الناس تنتظره للحساب.
في النهاية إلى كل من يعتبر سلام "رخواً" أو ضعيفاً مع الداخل ومع الخارج أقول أنّه لم يكن كذلك في ممارسته الداخليّة، ولا في لقاءاته مع الخارج العربي وغير العربي بل كان صريحاً إلى حدّ القسوة. لكنّه ليس رجل "بروباغندا" وإعلام إعلاني بل رجل يؤمن بالابتعاد عن "الهوبرة" والديماغوجيّة والشعبويّة التي سادت لبنان، والتي يخشى اللبنانيّون أن تعود إلى قصر بعبدا أو السرايا الحكومية ومع انتقال من مارسوها طويلاً إليهما. ولا شيء يمنع انتقالها أو عودتها إلى مجلس النواب.
تمّام سلام يعطيك العافية وأملي أن تكشف يوماً معاناتك الحكوميّة بالتفصيل وخصوصاً مع الفساد إلّا إذا... لا سمح الله.