لم تكن هناك أية صواريخ اليوم، أو أمس. وهذا خبر جيد لأن ذلك يعني أن بإمكانك مغادرة شقتك وسط مدينة حلب، ومقابلة أصدقائك، ومحاولة التظاهر بأن الحياة طبيعية. ومع ذلك، فأنت لا تعلم متى تعود الهجمات، ولا مدى سوء تلك الهجمات حين تعود.

يضيف عمير شعبان في مقال نشره في صحيفة واشنطن بوست إن مستمرة منذ 4 سنوات. هرب مئات آلاف الناس، ومات الآلاف، بما فيهم الكثير من أصدقائي. أنا وزوجتي نعيش مع حوالي ربع مليون نسمة عالقين هنا في الجزء الشرقي المحاصر من المدينة. لو أردت أن تظل على قيد الحياة في حلب.

ويسرد عمير في مقاله الطرق التي ستجدها لمحاولة حماية نفسك المتفجرات والموت جوعا 


عش في الطوابق السفلى

أولاً: لكي تنجو من الأنواع الكثيرة من الضربات الجوية والقذائف والصواريخ والقنابل الفوسفورية والقنابل العنقودية، فسوف تحتاج إلى أن تعيش في الطوابق السفلى من بنايتك. ذلك أن احتمالات استهداف الطوابق السفلى أقل من العليا.

عندما تُلقى قنبلة أصغر على بناية، فهي عادة ما تأخذ فقط أول طابقين أو ثلاثة. 

 

الكثير من الناس يعيشون في الطوابق السفلى من البنايات التي دمرت طوابقها العليا. الكثير من أولئك السكان انتقلوا إلى شقق أصبحت فارغة بعد أن هجرها أهلها وهربوا من المدينة. أسكن في الدور الثاني من مبنى ذي ستة طوابق، لذا فربما أكون آمنا، وربما لا. فنظام الرئيس السوري بشار الأسد والجيش الروسي قد أطلقا هجوماً مشتركاً على حلب، الشهر الماضي، وأصبحت الطائرات، في الضربات الجوية الأخيرة، تستخدم نوعا جديدا من المتفجرات يهدم البيت بأكمله.

ابتعد عن أية غرفة قريبة النوافذ 

الضوء يجتذب المفجرين أو القناصة. تركت غرفي الأمامية فارغة أو استخدمتها في التخزين، وانعزلت وزوجتي إلى الغرف الداخلية من شقتنا.

ليس لدينا كهرباء، ما يعني أن الدنيا مظلمة دوما. قبل الحرب، كنت أدرس العلوم الإسلامية بجامعة حلب، لكن الجامعة تقع في حي تسيطر عليه الحكومة، ولم يعد بإمكاني الذهاب إلى هناك، لذا فقد تركت دراستي. نحن الآن لا نغادر شقتنا أبداً تقريباً. لو كنا سنموت، فإننا نفضل الموت معاً.


الابتعاد مع أطفالك عن الشوارع 

لو كان لديك أطفال، فسوف ينبغي عليهم الابتعاد عن الشوارع معظم الوقت، وإلا فسوف يقتلون. يمكنهم الخروج أحياناً للعب أو الذهاب للمدرسة، لكن ينبغي حينها على آبائهم أن ينصتوا جيداً لصوت الطائرات الحربية أو القذائف، أضف إلى ذلك، هذه الأيام، القنابل العنقودية، الأكثر خطراً.

الدراسة تحت الأرض

انتقلت المدارس والمستشفيات إلى أماكن تحت الأرض منذ عدة سنوات، وكل حي تقريباً لديه مدرسة تعمل تحت الأرض.

لا يذهب كل الأطفال لتلك المدارس، إذ يظن بعض الآباء أن الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة. ومع ذلك فبعض الأسر تعيش بالقرب من المدارس، ويتركون أطفالهم يذهبون إذا كان الأمر لا يتطلب مشياً كثيراً.

كل المدرسين سكان متطوعون، هم جيراننا وأصدقاؤنا، لذا فإن الآباء يعلمون أن أبنائهم آمنون. تحت المبني الواقع عبر الشارع المواجه لمكان سكني، افتتحت مدرسة مؤخراً، يديرها رجل يعيش هناك. كل الأطفال في حيي يذهبون إلى تلك المدرسة التي تسمى مدرسة "الحكمة".

صعوبة الحصول على الوقود

إذا كانت عندك سيارة، سوف تمر بظروف صعبة من أجل الحصول على الوقود اللازم لها. لو كنت تأمل في المحافظة عليها من النسف أو التضرر بفعل الشظايا، فربما يجدر بك تخزينها في مرآب أو متجر فارغ. أيضا، اترك نوافذ السيارة مفتوحة وإلا تشقق الزجاج بفعل ضغط القنابل المتفجرة قريباً من مكان السيارة.

أنصت إلى صوت الطائرات الاستطلاعية، التي يختلف صوتها عن الطائرات المقاتلة حال القصف.

تحلق الطائرات الاستطلاعية على مستوى أخفض، وتصدر صوت أزيز مستمر. لو سمعت تلك الطائرات، فاعلم أن القذائف سوف تسقط قريباً، جالبة الموت معها.

لو خرجت من بيتك فاحرص على ألا ينتهي بك المطاف مع مجموعة من الناس يزيد عددهم عن عشرين شخصاً، وإلا فربما اجتذبت الطائرات لاستهداف منطقتك.

كانت تلك الجولات الاستكشافية خطيرة في الصيف على وجه الخصوص، إذ لم تكن هناك أية سحب تحجب رؤية الطيارين. لكنها أيضاً تكون خطيرة في الأيام الصافية في فصل الشتاء.

الخروج ليلاً خطر على وجه الخصوص، لأنه ليس بإمكانك رؤية الطائرات تحلق فوق رأسك، ولأنه ينبغي لك القيادة دون استخدام أضواء سيارتك، حتى لا تحدد الطائرات مكانك. كنت أقود سيارتي في الحي الذي أسكن فيه ذات ليلة، عندما أحسست فجأة بضغط في أذني، وتشققت نوافذ سيارتي. كان ذلك بسبب ضربة جوية ورائي بأقل من مائة متر.

وبخلاف الطائرات الاستطلاعية، فلن يكون بإمكانك دائماً سماع الطائرات المقاتلة. أحياناً تسمع صوت قنابلها أو صواريخها بعد أن تكون الطائرات قد تجاوزتك. لو استمعت عن كثب، سوف يكون بإمكانك أن تعرف الفرق بين الطائرات السورية والروسية: فأنت تسمع الطائرات السورية قبل أن تصل إلى المنطقة، بينما الطائرات الروسية أسرع، وصواريخها أكثر دقة.

إن خرجت من المنزل تذكر، ربما لن تعود

البقاء محبوساً في البيت طول الوقت سوف يصبح أمراً مملاً، وسوف ينتهي بك الأمر بالرغبة في أن تجرب الحياة بشكل يشابه حياتك الطبيعية، كأن ترى أصدقائك، أو تحاول الحصول على طعام. يريد الناس الخروج، لكن لو خرجت تذكر أنك ربما لا تعود. كلما ذهبت لمقابلة أصدقائي أضع في ذهني احتمال أنني لن أراهم بعد ذلك أبداً. ذهبت مرة لمقابلة جار لي يعمل حداداً. سألته أن يصنع لي مولداً كهربائياً جديداً يعمل باليد. قال إنه سوف يصنعه لي، لكنه مات في اليوم نفسه جراء قنبلة عنقودية سقطت فوق حينا.

عندما يشتد القصف، سوف تبدأ في القلق من فقدان المزيد من أصدقائك. اتصل بهم للاطمئنان عليهم. لو رأيتهم، قل لهم عند الوداع: "اعتن بنفسك، فربما لن أراك مرة أخرى".

سوف يكون بإمكانك معرفة أي الأيام أكثر أمناً. لو كانت هناك محادثات سلام تحدث في جنيف، فسوف يكون هناك قصف أقل ذلك اليوم. الأسبوع الماضي، أعلن النظام والروس بدء وقف إطلاق النار، لكن ذلك جعل كل الناس خائفين، فنحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث بعد ذلك. ربما تصبح الهجمات أسوأ من ذي قبل عندما ينتهي وقت إطلاق النار. هذا هو ما حدث المرة الماضية. عموماً، تستمر الطائرات الاستطلاعية في التحليق فوق رؤوسنا ليلاً ونهاراً، حتى أثناء وقف إطلاق النار.

أنقذ الجرحى بدل الذعر 

سماع انفجار القنابل طول الوقت أمر صعب. ذلك أن تلك القنابل مزعجة جداًـ الصوت وحده كفيل بإصابتك بالجنون. لذا فإنني أحاول الآن تجاهلها. لو انفجرت القنابل قريباً منك، حاول أن تنساها، حاول أن تكون هادئاً. اذهب لإنقاذ جيرانك بدلاً من الذعر. لو لم تهدأ فسوف تصاب بالجنون حقاً.

من السهل جداً أن تصاب بالجنون هنا. ربما تخرج من بيتك ذات يوم بحثاً عن طعام وترجع لتجد بيتك قد تدمر وعائلتك قد قتلت. رأيت ناساً يقفون أمام مبان مدمرة يصرخون ويبكون غير مصدقين. المزيد والمزيد من الناس فقدوا منازلهم، وهم الآن يعيشون في الشوارع يطلبون النقود. قبل الحرب لم يتخيل أولئك الناس أبداً أنهم سوف يصيرون شحاذين.

حتى أولئك الذين لا يزالون في بيوتهم، يكافحون للتأقلم. قتل أحد أصدقائي نفسه بالرصاص بعد أن مات صديق آخر من أصدقائنا. (هذا الصديق الآخر كان في بيته عندما انفجرت قنبلة قريباً منه، فاستقرت شظية في مخه وقتلته) أما صديقي الأول فقد أطلق النار على صدره. أظن أن الانتحار أكثر شيوعاً في الدول الغربية، لكن الأمر هنا شديد الندرة، ذلك أن الانتحار في الإسلام ذنب عظيم.

لو لم تقتلك الضربات الجوية أو القذائف، فإن قلقك الأكبر سوف يكون منصباً على الحصول على الطعام. قبل الحصار، كان هناك طعام كاف للجميع. لكن الآن، لم يعد للكثير من الفقراء مال كاف لشراء الطعام، لأنه لم يعد هناك وظائف، لذا فلكل حي متطوعون شباب مسئوليتهم الحصول على الطعام والإمدادات الأخرى لأحيائهم. الأسر التي لا يزال لديها أب أسر محظوظة. وظيفة هذا الأب هي الحصول على الطعام والإمدادات الأخرى كل يوم.

الخبز يزداد ندرة يوما بعد يوم، كما تزداد أسعاره ارتفاعاً بشكل يومي في السوق السوداء، لأن الاقتصاد قد تدمر. الجنيه السوري تنخفض قيمته أكثر فأكثر أمام الدولار، ما يجعل كل شيء أكثر غلاء. هناك بعض الأرز والمعكرونة تقدمها منظمات الإغاثة. يعطون بعض هذه المؤن مجاناً، والبعض الآخر يبيعونه. تبيع عدد قليل من العائلات الطعام الفائض لديها. لكن ليس هناك لحم ولا لبن ولا زبادي.

ربما سوف تحاول زراعة بعض الخضروات في حديقة منزلك. يزرع الناس في حينا الباذنجان والبقدونس والنعناع. ومع ذلك فقد أصبحت العديد من الحدائق مدافن، لأنه لم يعد هناك مساحة في أي مكان آخر لدفن الموتى بعد 4 أعوام من الحرب. لكن لو كان المقابل هو الموت جوعاً، فربما لن تمانع من أكل طعام ينمو بين الجثث.

البضائع الأخرى نادرة كذلك. فنحن نعاني من متاعب حقيقية لإيجاد الوقود أو الغاز لطهي الطعام، ومن ثم نضطر لاستخدام الخشب أو أي نوع من الوقود القذر. هذا أمر مضر جداً لصحة الجميع، خصوصاً الأطفال.

فلتأمل، أو تصلي، من أجل ألا تضطر للذهاب إلى المستشفى. المستشفيات بائسة بشكل تام. لا أعرف كيف يستطيع الأطباء والممرضات تحمل كل هذه الدماء والعظام والأمعاء على الأرضيات. الرائحة لا تطاق. المرضى الذين لا يستطيعون المغادرة يصرخون بشكل دائم من الألم. أحتاج للذهاب إلى المستشفى أسبوعياً لتغير ضماداتي. لا أتحمل البقاء هناك أكثر من نصف ساعة.

لماذا لا زلت هناك؟

حلب مدينتي. وسوريا موطني. هذا هو مبدأي حقاً، وأنا أتمسك به.

الناس هنا يعانون لأننا نريد الحرية. قبل بدء الحرب، اشتركت في مظاهرة ضد نظام الأسد، وألقي القبض عليّ وضربت واعتقلت في زنزانة صغيرة لخمسة أيام. كان عنف رد فعل النظام يزداد كلما زادت المظاهرات. في النهاية حاول الجيش السوري الحر أن يشعل ثورة، وبدأت الحرب.

بعد كل ذلك، بعد الضرب والهجمات الجوية، والحرب والقذائف، أريد أن أعيش في حلب حرة. أريد أن أظل هنا، حيث ولدت، ما تبقى من حياتي. هذا حقي.

المصدر : هافينغتون بوست عربي