الخصام الفرنسي - الروسي لن يتطور إلى مواجهة. كل طرف يعرف ماذا يريد، وما هي حدود قوته وقدراته، وعواقب الانزلاق إلى حيث لا يجب. 

ما يؤكد ذلك أن سياسيين وخبراء مخضرمين يؤكدون أن العالم وصل إلى حدود المنطقة المفترض أنها حمراء ومحظورة من وقائع «حرب باردة» أخطر من الحرب السابقة. لا يخفي هؤلاء أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجرّ القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، للّعب على «حافة الهاوية»، والتظاهر بأن لديه ما يربحه، والقليل مما يخسره، بعكس الآخرين، خصوصا واشنطن التي خسائرها كبيرة ومدوية.

الرئيس فرنسوا هولاند لعب بمهارة حركته على طاولة العلاقات. الرئيس الفرنسي لم يكن يرغب في اللقاء مع بوتين في باريس لقاء قمة يعطيه ضمنا شيكا بالتحرك بحرية في سوريا وأوكرانيا، على أن يتحمل بوتين مسؤولية التعطيل، وليس هو الذي عليه أيضا أن يحسب حساب الرأي العام الفرنسي، وقد اصبح قاب قوسين من ترشيح نفسه رسميا لولاية رئاسية ثانية، وقد نجح في حركته؛ إذ إن بوتين نفسه تحمل مسؤولية الإلغاء؛ بسبب رفضه حصر النقاش بالأزمة السورية. أيضا هولاند ربح تأييد المستشارة ميركل ووقوفها إلى جانبه. بهذا لم يقع الانقطاع والتباعد، ولا جرى التسليم بما يريد بوتين. هولاند نفسه أكد أن «الحوار يجب أن يستمر مع موسكو، بشرط أن يكون حازما وصريحا». 

في باريس، وبعيدا عن العواطف، يَرَوْن أن بوتين « الحالم» باستعادة روسيا إرث الاتحاد السوفياتي السياسي، وألا تكون القوة الثانية أو حتى الثالثة كما كانت عندما تسلمها من يلتسين، مستعد للمخاطرة بعيدا للنجاح. هذه المخاطرة هي التي تدفعه حاليا لتنفيذ استراتيجية: اضرب ثم اضرب في سوريا، واكذب ثم اكذب، لتمرر أهدافك وتنجح . 

وقد أصبح واضحا في باريس، وفي غيرها من العواصم الغربية، أن بوتين لا يريد الاكتفاء بسوريا المفيدة، ولا ببقاء بشار الأسد ونظامه، وإنما أكثر من ذلك، فهو يريد -وبالتحالف والتفاهم مع إيران- التمدد من الشاطئ السوري الذي يكون نقطة ارتكاز بقواعده، وخصوصا في طرطوس، إلى العراق مرورا بلبنان (حزب الله) وصولا إلى اليمن. 

هذا التوجه «البوتيني» بدأ يقلق الغرب، خصوصا واشنطن. تطاول الحوثيين على المدمرة الأمريكية أيقظ الهواجس التي أثيرت في بداية الانقلاب من أن ايران تريد وضع يدها في قرار الملاحة الدولية في باب المندب عبر الحوثيين، الذين يمسكون بالسلطة مع علي عبدالله صالح في صنعاء. التطاول الحوثي ليس إلا عملية جس نبض لواشنطن بعد مرور استخدام صواريخ في ضرب الطائف، والتي لا يمكن أن تكون سوى من الترسانة الإيرانية. الرد الأمريكي المحدود مهم؛ لأنه رسالة موقعة بعدم الصمت.

ما يؤكد ذلك أن هيئة الأركان الفرنسية تلقت تقريرا (كشفت عنه جريدة البطة العرجاء) من نوع العلم والخبر أن «قائد القوات الأمريكية جوزف دانفورد قد وضع تقريرا سيبقى سريا ولن ينشر أمام الرأي العام لكنه يقوم على قاعدة أساسية والنص الحرفي: «مقاربتنا للعالم كانت (أي يدين القيادة السابقة) إننا إما في حالة حرب أو حالة سلام، في حين أن خصمنا لا يفكر مثلنا؛ لذلك فإن خططنا العسكرية أعدت بشكل سيئ، وغير قابلة للعمل أو التطبيق، خصوصا في هذا الجو الدولي المعقد بدرجة غير معقولة». 

أول تنفيذ عملي لهذا الموقف هو الإعلان عن مناورة غير مسبوقة على الحدود الروسية يشارك فيها حوالي ثلاثين ألف جندي من الحلف الأطلسي، في الشهر الأول من العام المقبل، وتمهيدا لذلك؛ بدأ نقل القوات، وهي تصل تباعا، حيث ستصل وحدات عسكرية أمريكية من الفرقة الرابعة من قواعدها في كولورادو ومن الفرقة المجوقلة 82. 

حتى الآن، بدأت التحضيرات للمناورة «بالرصاص الحي»، كما يقال. من المأمول أن تبقى التطورات تحت سقف مقبول؛ لأن الحرب الباردة هذه المرة لن تكون نتائجها سليمة؛ لأن «التنين الأصفر «يطمح للانضمام إلى المسرح.