يتخبّط لبنان منذ فترة ليست بالقصيرة، في حالة من القلق والضياع والشلل، بسبب الفشل المستمر في انتخاب رئيس للجمهورية، وتفاقم تداعيات الشغور الرئاسي المتمادي على الأوضاع العامة، السياسية والاقتصادية والمعيشية، والتي وصلت إلى حدّ وقوع المؤسسات الدستورية في أسر التجميد والتعطيل.

وليس في المدى المنظور ما يُشير إلى قرب خروج البلد من دوّامة أزماته المتداخلة، بسبب الخلافات المتحكّمة بمواقف الأطراف السياسية، وامتداداتها الإقليمية، من جهة، ولتعذر الوصول إلى اتفاق بين الأطراف المعنية على رئيس توافقي، يحظى بأوسع تأييد ممكن، في حال تعذر الإجماع، ويكون قادراً على قيادة السفينة بعيداً عن الحروب المشتعلة حولنا، وإيصالها إلى برّ الأمان.

ولكن ثمة أطراف داخلية ما زالت تحاول الهروب إلى الأمام، مرّة عبر الإيحاء بقرب إجراء الانتخابات الرئاسية فور إعلان الرئيس سعد الحريري تبنيه ترشيح العماد ميشال عون، ومرّات أخرى عبر خطابات التهديد بالنزول إلى الشارع، والوعيد بقطع أيدي الشركاء في الوطن!

فهل انتخاب العماد عون رئيساً متوقفاً على تأييد الحريري له فقط ؟

وإلى ماذا توحي الحملات الممنهجة لتصوير الحريري وكأنه هو السبب الأوّل والوحيد لتعطيل الانتخابات الرئاسية طوال السنتين ونصف السنة؟

وما هي خلفية الترويج بأنه لم يعد ثمة خيار أمام الحريري غير تأييد عون، بعد سحب ترشيحيّ الرئيس أمين الجميل وسمير جعجع، وعدم نجاح ترشيح سليمان فرنجية في إحداث الاختراق المنشود في جدار التعطيل الرئاسي؟

لا شك أن الرئيس سعد الحريري يتعرّض لحملات سياسية ونفسية ظالمة، من الخصوم وبعض الحلفاء، لدفعه إلى تأييد العماد عون، والقفز فوق مزاج جمهوره وإرادته، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار مروحة تحالفاته وعلاقاته العربية والغربية.

يحاول د. جعجع من موقع الحليف، أن يُقنع رئيس تيّار «المستقبل» بإعلان تأييده لعون، بحجة إحراج «حزب الله» الذي «لا يريد ضمناً الجنرال رئيساً للجمهورية».

أما «حزب الله»، الخصم اللدود، فيسعى للإمساك بمفاتيح السراي الكبير، عبر تمسكه بورقة الاستحقاق الرئاسي، والتحكّم بمسار الشغور في قصر بعبدا، والتمترس خلف العماد عون.

الواقع ليس من السهل تجاوز حالة الجفاء المترسخة بين جنرال الرابية وجمهور «المستقبل» خاصة، والطائفة السنية عامة، بسبب تراكمات الخطاب العوني المعادي للقيادات السنية ولرؤساء الحكومات المتعاقبين، وللرئيس سعد الحريري، الذي لم يتورّع عون يوماً عن الإعلان بأنه قطع له تذكرة «روحة بلا عودة One way ticket»، وكأن رئيس التيار العوني يومذاك يعترف بجدية التهديدات الأمنية التي دفعت بالحريري إلى المغادرة، والغياب عن البلد ثلاث سنوات ونيّف.

ويكفي رصد ردود الفعل الغاضبة التي ظهرت في تيّار «المستقبل» وفي صفوف جمهوره في بيروت وطرابلس وصيدا والإقليم ومختلف المناطق الشمالية والبقاعية، وصولاً إلى شبعا جنوباً، حتى ندرك حجم الهوّة التي تفصل الطائفة السنية عن الخيار العوني.

لذلك نقول مِن الظلم للرئيس الحريري ولزعامته استسهال تجاهل هذا الواقع المعروف على امتداد جمهوره الواسع.

* * *

على الصعيد الخارجي، يُدرك العاملون على الطبخة الرئاسية، أن لا تغيير في مواقف الولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان المؤيدة لخيار «الرئيس التوافقي» وهو ما تمّ إبلاغه، بل والتأكيد عليه، للأطراف المعنية، بما فيها التيار العوني.

أما موقف المملكة العربية السعودية خاصة، ودول مجلس التعاون الخليجي والأطراف العربية المعنية بالوضع اللبناني، فهو على ثباته بعدم التدخل بزواريب السياسة اللبنانية، وترك اللبنانيين يتوافقون على رئيس وسطي، وتأييد كل ما يحظى بإجماع وطني، يحفظ توازنات المعادلة اللبنانية، ويحافظ على الأمن والاستقرار في الداخل، بعيداً عن النزاعات المشتعلة بالجوار.

ولكن ذلك لا يعني، بأي شكل من الأشكال، موافقة السعودية أو أي دولة عربية أخرى، على تسليم رئاسة الجمهورية في لبنان لأحد الحلفاء لإيران، وذلك بغض النظر عن شخصية العماد عون أو أي مرشّح آخر، لأن الأمر يتعلق بالاستراتيجية السعودية التي تخوض حالياً معركة لا هوادة فيها ضد التمدّد الإيراني في الجسم العربي، بدءاً من اليمن والبحرين، وصولاً إلى سوريا والعراق.

لذلك، من الظلم للرئيس الحريري عدم مراعاة أهمية علاقاته وتحالفاته الخارجية في الترويج للخيار العوني، هذه الأهمية المميزة التي أكدها هو شخصياً من خلال حرصه على إجراء مشاوراته مع عواصم القرار العربية والأجنبية.

* * *

لا داعي للدخول مجدداً في سجال التعطيل. المعطلون هم المقاطعون للجلسات النيابية الذين يحاولون فرض انتخاب مرشحهم ميشال عون، كشرط لا حياد عنه للنزول إلى مجلس النواب، وهذا يتنافى مع أبسط مبادئ النظام الديمقراطي، والممارسة الانتخابية الصحيحة.

وظلامة الحريري بتهمة التعطيل واضحة في الأساس لكل اللبنانيين، الذين يشاهدون وجود نواب «المستقبل» دائماً، وزعيمهم أحياناً، في طليعة الجلسات الانتخابية.

* * *

بقيت نقطة أخيرة حول مراهنة البعض على تراجع شعبية الحريري!

صحيح أن سعد الحريري مُحاصر بحلقة من الأزمات الضاغطة، وهي تأتيه من كل حدب وصوب.

من الأهل والأصدقاء والحلفاء، ومن المنشقين والخصوم والأعداء، يُعاني من الهوّة مع الشارع، ويتحمّل التعثر المالي في المؤسسات.

ولكنه، ورغم كل ما يُحيط به من صعوبات وتحدّيات، ما زال هو رمز الاعتدال الإسلامي السنّي في لبنان. هذا الاعتدال الذي يبقى مدماكاً أساسياً في صرح الوطن - الرسالة، ودرعاً لحماية صيغة العيش المشترك، في زمن انتشار موجات التطرّف، وشيوع خطاب التعصّب الطائفي لدى المسلمين والمسيحيين.

سعد الحريري ضرورة لحلفائه، وندّ لا غنى عنه لخصومه، وهو قبل كل ذلك، زعيم وطني كبير لجمهوره.

أما المكابرة والنكران لهذا الواقع، ففيه الكثير من الظلم لحامل أمانة رفيق الحريري.