برهنت التطوّرات التي شهدتها سوريا ومصر منذ "الربيع العربي"، يقول باحثو مركز الأبحاث العربي الجدّي في تقريرهم الدقيق والمُلفِت قبل نحو ستّة أسابيع، أن الحكومات المركزيّة القويّة والمُستبدّة ليست الحلول الناجعة لمشكلات الاستقرار والتنمية والتطوّر. إذ أن وجود جذور عميقة ثقافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة للأزمة الإقليميّة وعدم معالجتها سيجعلان الاضطرابات في المنطقة تستمر، وربّما تحوّلانها حركات دينيّة راديكاليّة وصراعات مذهبيّة في غياب تيارات إيديولوجيّة لا دينيّة.
في اختصار، ترى الولايات المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة عمليّة التحوّل الجاري في المنطقة بطريقتين مختلفتين. فالأولى تسبّبت لنفسها بخيبة تلو أخرى لأنّها رأت عمليّة التحوّل من منظورها الخاص لطريقة تفكيرها ولقيمها. والثانية تسبّبت لنفسها بخيبات مُماثلة لأنّها رأت العمليّة المذكورة من هاجس التهديد الاستراتيجي الإيراني لها.
إلى ذلك يبدو أن نقصاً في التماسك ظهر عند الأميركيّين في أثناء تقويمهم للعلاقة بين واشنطن والرياض. وكان هذا الأمر اختباراً كبيراً لهما. إذ يستطيع أي مُتابع أن يضيع بين تعرّجات السياسة الأميركيّة (Zigzags) في الشرق الأوسط، وخصوصاً منذ اجتياح العراق عام 2003 الذي تبعه تدخّل إيراني قتل أميركيّين كثيرين ونجح في السيطرة عليه. كما منذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران التي تعتبر أميركا دولة مرفوضة في الشرق الأوسط. إلى ذلك كانت واشنطن تعتبر رئيس مصر حسني مبارك حليفاً قريباً منها عندما طلبت منه التنحّي عن الحكم. وكانت تعتبر الرئيس السوري بشّار الأسد إصلاحيّاً وبعد ذلك طلبت منه الرحيل عن السلطة، قبل أن تُغيّر رأيها وتبدأ العمل مع الروس للمحافظة عليه على رأس الدولة في بلاده. وفي ليبيا كانت واشنطن قرّرت طي صفحة الخلافات بل العداء مع حاكمها العقيد معمّر القذّافي واعدة ببداية جديدة معه بعدما سوّى بضغوط منها ومن المجتمع الدولي قضيّة "لوكربي"، بدفع تعويضات لضحايا الطائرة التي فجّرتها مخابراته في أجوائها. وبعد ذلك شنّت الحرب عليه مع دول غربية أخرى وقصفته حتى الموت. أمّا في العراق فقد اعتبرت واشنطن نوري المالكي (رئيس الوزراء السابق) "الخيار الأفضل الذي لدينا" على حد قول نائب الرئيس جو بايدن، لكنّها بعد ذلك عملت لإسقاطه ولعدم عودته إلى هذا الموقع. ثمّ فرضت عقوبات قاسية على إيران بسبب برنامجها النووي قبل توقيعها في إطار المجموعة الدولية 5 + 1 اتفاقاً معها يسمح لها بمتابعة تنفيذ هذا البرنامج، شرط أن "تُفرمل" وصولها إلى الخطوة الأخيرة فيه وهي إنتاج القنبلة النوويّة أو أن توخِّرها.
طبعاً للولايات المتحدة حساباتها المتعلّقة بالمحافظة على مصالحها الحيويّة والاستراتيجيّة. ولكنّها تبقى مثيرة للحيرة والارتباك عند كثيرين جرّاء قدرتها على تغيير اتجاهاتها بسرعة كهذه والمحافظة في الوقت نفسه على المصالح نفسها، كما قدرتها على التضحية بتحالفاتها الواضحة والثابتة.
في أي حال، صار على الولايات المتحدة الآن أن تحدّد أين تقف وأن لا تحاول صنع الكعكة وأكلها في الوقت نفسه. فالشفافيّة والقدرة على التنبّؤ أو التوقّع في العلاقات الدوليّة تُساويان الثقة. والتغيير في أي بلد يقوم به أهله أو بعض منهم لا التفكير الأمنياتي وغيره. وما هو مطلوب بإلحاح اليوم، استناداً إلى التقرير نفسه، هو أن تُحدّد واشنطن لحلفائها في الأوسط بأوضح الطرق والعبارات موقفها من قضايا إقليميّة مُلحّة عدّة. وفي ما يتعلّق بالسعوديّة فإنّها قامت بدورها بردود فعل انفعاليّة كما ارتكبت أخطاء. والحوار الصادق والصريح بين الدولتين يجب أن يبدأ فور أن تبدأ الإدارة الجديدة في واشنطن عملها. ويجب أيضاً أن يُوضح بدقّة موقف الأخيرة (الإدارة) من كل القضايا الإقليميّة المُلحّة. إذ لم يعد هناك مجال للخداع أو للغة مزدوجة بين الحلفاء. ويجب ثالثاً وضع تحديد مُسبق للافتراقات والتلاقي في مواقفهما والتصرّف على هذا الأساس. فالتحالف لا يعني دائماً امتلاك أطرافه آراء مُتطابقة بل يعني المقدرة على إدارة الاختلافات على نحو لا يُؤذي مصالح أطرافه.
أخيراً يشير تقرير مركز الأبحاث العربي الجدّي نفسه إلى أن علاقة أميركا والسعوديّة ستتحسّن أو ستتردّى أكثر. فالغليان في المنطقة وأهميّتهما لا يفرضان بقاء علاقاتهما ساكنة أو جامدة. فالآن وقت التأسيس لمستقبل علاقات الدولتين بحيث تكون مرنة وقادرة على التكيُّف مع الاختلافات والاتفاقات.
ولا يزال مضمون هذا التقرير صالحاً لمعالجة الصدمة في العلاقات المذكورة جرّاء تكرار الكونغرس موقفه السلبي من المملكة الأسبوع الماضي.