«قبل الموجة الثانية»، عنوان المجموعة الشعرية الجديدة (منشورات الغاوون) للشاعر اللبناني المقيم في استراليا شوقي مسلماني، وفيها يكمل تجربته التي تقوده أكثر صوب النص الشامل الذي بدأه مع «محور مائل». مؤخراً زار لبنان بعد غياب ثلاثين سنة. هنا حوار معه. 

سنبدأ من زيارتك الأخيرة لبيروت. بعد سنين عديدة من الإقامة في أستراليا جئت الربيع الماضي في زيارة. كيف كان لقاؤك بالمدينة؟

^ لا بدّ من القول، وفي إطار تجربتي على الأقل، أنّ اغترابي عن وطني بعد حرب السنتين الداميتين، وتحديداً سنة 1977، إلى أستراليا قد أدخلني في ما يمكن أن أسمّيه «غيبوبة الزمن». لبنان كلّه في ذاكرتي هو لبنان الذي عرفته كما هو، كنت أفترض تغيّراً، وكنت أقرأ، وأسمع من أصدقاء، كنت أصدِّق ثمّ أنسى تماماً ما صدّقته، فما في الذاكرة عليه ختم بالشمع الأحمر. وبعد انقضاء أكثر من ثلاثة عـقود، وفي ظروف ملتبسة، وجدتني في ربيع 2012 وجهاً لوجه مع لبنان وبيروت، وجهاً لوجه مع الواقع، مع الحقيقة. عقلي وقلبي يقولان لي إنّي في وطني الأم، وعيناي تقولان لي إنّي على سطح المرّيخ. انكسرتُ كثيراً من ثقل سذاجتي. كنت أهجس بخوفي من خراب الصورة مفضِّلاً عليها لبنان الذي عرفت. ذهبتُ إلى لبنان مرافقاً جنازة صديق الطفولة الدكتور محمّد موسى حمّود لأجد في انتظاري جنازة ذاكرتي. ساحة الشهداء أين هي؟ ساحة رياض الصلح؟ أسواق «البلد»؟ أنا أتحدّث عن قلب العاصمة. أي بلقع مهجور هي ساحة الشهداء مثالاً لا حصراً. مشهد غريب، محزن، مؤسف، صادم. كان التعب كثيراً لكنّ الحياة كانت كثيرة. ما آلت إليه ساحة الشهداء التي أحتفظ لها بصورة كبيرة في صدر بيتي في سيدني تختصر الحكاية. لا أزال أتحدّث عن «الحجر» في الجوهر. ويا للفوضى العارمة على كلّ صعيد. السمكة فاسدة من رأسها إلى ذيلها. خراب هائل في النفوس من فوق إلى تحت وبالعكس كأن كلّ شيء إلى هاوية بلا قرار. 

استدراك

في الفترة الأخيرة بدأ صدور مجموعاتك بالتواتر. كنت مقلاً في النشر، واليوم تبدو كأنّك تستدرك زمناً ما عبر تواتر النشر؟

^ قبل انطفاء الشمعة يصرخ فيها ضوء ويهمد. وأظنّ أنّ المرء عندما يبلغ سنّاً معيّنة ويجلّله الشيب وتسارع إليه العلل يحدس أنّه ليس خالداً، وأنّه صاعد نزولاً ملاقياً غير بعيد حالته الأخيرة الأبديّة. ومثل الشمعة يصدر منه ذلك الوهج. أو يختلي إلى ذاته ويحصي أمواله وينظر في الورثة. وقد يعمل عملي: يفتح الجوارير والصناديق المغلقة على الشمس. وشخصيّاً لديّ من القديم البعيد والقريب الكثير: خواطر وقصص ونصوص وما شابه. وأنا أكيد أنّ ما لفتك هو أنّي في العام 2012 صدرت لي مجموعتان «لكلّ مسافة سكّان أصليّون» و«محور مائل»، ثمّ مع بداية 2013 أي العام الجاري صدرت لي «قبل الموجة التالية». ولا أبتعد عمّا سبق من قولي فمجموعة «لكلّ مسافة سكّان أصليّون»، هي من ملامح كانت راقدة في أحد تلك المغاليق، أمّا «محور مائل» فقد كتبته قبل ثلاث سنوات وهو الفصل الثاني من نصّ واحد استغرق أربعة فصول، كلّ منها كتاب. وكان لهذا النصّ أن يطول بعد، لكنّي عن صواب أو خطأ ألزمت نفسي بالاكتفاء، وجعلتُ للمنجَز مقدّمة وخاتمة، وقلت عن صحّ أو خطأ مجدّداً: لا انكفاءَ عن تحبيذ هذه النصوص في مجموعات لا تزيد على سبعين إلى ثمانين صفحة استدراجاً للقارئ بأن هذه القراءة لن تستغرقه طويلاً إذا ما كانت عابرة. واقتطعتُ الفصل الثاني وصدر عن «الغاوون» باسم «محور مائل». قلت: فليكن النصّ كلّه في إصدار واحد وأنتهي من هذا الأمر. وأرسلته إلى «الغاوون» ذاتها وصدر تحت اسم» قبل الموجة التالية». لم تجانب الحقيقة عندما قلتَ بالإقلال، أمّا الإكثار فمن الخداع البصري فقط. ولأنّي من وجهة نظري بلغت تلك السنّ، وجلّلني الشيب، ويسارع إليّ الاعتلال، ولأنّي أحدس وأهجس فأنا في حيّز شبيه بذاك الحيّز أو ما تسمّيه ذاتك «الاستدراك»، وأظنّ أنّ هذا حقّ إنساني عام ولكنّه حق مسؤول.

ثمّة افتراق في تجربتك الأخيرة، بدءاً من الشكل، إذ تدخل في كتابة نصّ طويل مفتوح على شتّى الاحتمالات. هل من رغبة في الافتراق عن التجربة الماضية، أم هو تطوّر طبيعي لما كتبت سابقاً؟

^ أنا عمليّاً لا يد لي في ذلك، فأنا ليس لديّ قالب محدّد، وإذا ما انوجد سرعان ما أنساه بلا إرادة كليّاً. لستُ في محلّ لأطلّ كاشفاً على هذه التجربة الإنسانيّة. أنا في «حيث الذئب» غيري نسبيّاً في «من نزع وجه الوردة»؟ وأنا غيري الآن. أعرف ذلك. ربّما هي ثقة زائدة مذمومة، ربّما تهوّر أو جرأة على اقتحام المجهول أو يقين مسبق أنّ الشكل أشكال، والحقّ أني فقط مستجيب لتشكّلات الداخل والتي هي ذاتها تفرض شكلها وحتى مضمونها ما دام الشكل والمضمون مفتوحين على بعضـهما، وإذا قلـتُ أنا «هذا حسن» يكون الأمر قد قضي، وإلاّ فلن يمرّ، بمعنى آخر أنا المسؤول، وعـندي من الشـجاعة لأن أتقبّل النتائج. إذن فإنّ ما يبدو افتراقاً عن التجربة الماضية لا يعدو أن يكون افتراقاً مؤسِّساً، أو هو من ضمن سياق التجربة، وافتراض الافتراق والتطوّر الطبيعي يحسن في مسمعي، وأرجو أن يكون كذلك شرط أن يكون تطوّراً بالمعنى الإيجابي.

شعار

ثمّة حيّز لا تغادره في الكتابة. اقتراب قصيدتك من مناخ سياسي، والسياسة هنا بمعناها الفكري بالطبع. هل يمكن القول إنّ ثمّة التزاماً ما لا تزال تحافظ عليه؟

^ بما أنّي أعيش زماني على قدري فلا يمكنني ألاّ ألاحظ خير وشرّ ما يجري حولي وفي العالم. أتذكّر، وأنا طفل، أنّي وقعت على تسجيل لمقتل الإمام الحسين، وذرفتُ دمعة. ورأت أمّي منّي ذلك، فكيف لطفل أن يعي ما يُقال إلى درجة أن يبذل دمعة؟ والحقيقة هي أنّي استشعرت أنّ الإمام لم يكن ليصاب بهذه النكبة لو لم يقع عليه ظلم فظـيع. وكرهت الظلم والظالمين. وكانت الماركسيّة، في السبعينيّات من القرن الفائت، أعلى صوتاً وأبلغ إنسانيّاً في مكافحة الظـلم. وكان يجدر بي أن ألتفت ناحية ذاك الصوت النبيل. كيف لإنسان إنسان، وعربي، ألاّ ترعده نكبة الشعب الفلسطيني وضياع فلسطين، وألاّ ترعده هذه التجزئة الكارثيّة للعالم العـربي، وألاّ يرعبه هذا الدم المسفوح في مناطق كثيرة من العـالم أو هذا الفقر المدقع الذي يصيب أوطاناً بأكملها والقائمة تطول والألم يحفر عميقاً. 
لم أشأ أن أظلّ وراء نافذة، بل تبعتُ الحكـيم جورج حبش الذي قال مرّة «بئس من أدرك الفكرة وتخلّى عنها» أي لم أتعـالَ إنّما حاولت، وكلّ ذلك بمـثابة فرض عـين على ما أنصّه. قيل إنّ الوعاء ينضح بما هو فيه. أنا شخصيّاً لا أصدِّق من خلا نتاجه من هذا الواقع، فهو يدّعي أنّ السياسة، ولو بمعناها الفكري، تضرّ بالنصّ. لا، فالأمر ليس على هذا النحو من التبسيط. والواقع أنّي، وتحديداً في «قبل الموجة التالية» أنثر كلّ حياتي وتجربتي وآرائي، متحدّثاً مرّة عنّي شخصيّاً ومرّة عن كلّ هذا العالم، وبمنظور اثنين في واحد. والسياسة بمعناها الفكري كما تشير في نصوصي فإنّي لم أتركها لقطّاع الطرق، ولا يجب لمن يحترم نفسه أن يتركها لقطّاع الطرق. وبهذا المعنى أنا ملتزم جانب الطبقات المسحوقة والأمم المغلوبة من دون أن أنسى واقع المرأة التي على كتفيها ثقل مجرّة، بسبب هذه الظلاميّة التي لا تزال تسود بلداناً كثيرة من العالم ومنها البلدان العربيّة. 
شعاري هو إيّاه الذي رفعه مرّة ضمير الأمّة الراحل الكبير جورج حبش.

أجرى الحوار: إسكندر حبش