هذا العنوان ليس لي، بل هو للوزير الأميركي جورج مارشال، في نهاية الحرب العالمية الثانية، قاله في إعلان عن خطة مارشال لإعادة إعمار البلدان التي خرّبتْها الحرب، وقد خطر لي الاستشهاد به في الوقت الذي نشهد فيه سياسات الإبادة في حلب. لقد صارت حلب، بعد حمص، وبعد داريا ومضايا والزبداني والمعظمية وجوبر ومخيم اليرموك، ولا أدري أين وأين، علامةً بارزةً على الانفلات الذي أحدثه اضطراب النظام الدولي، وسط خوف الجميع من أن يؤدي ذلك كلّه إلى استعار حروبٍ إقليميةٍ وعالمية. بيد أن هذا «الخوف» من اندلاع نزاعاتٍ أوسع، صار مبررًا لاستمرار المذابح الوحشية، بدلاً من أن يؤدي إلى إخماد النيران المشتعلة في سوريا والعراق وليبيا واليمن.
ما الخطيئة التي ارتكبها السوريون لكي تنصبّ عليهم حمم جحيم الوحش الأسطوري بشار الأسد على مدى خمس سنواتٍ ونصف السنة. وإلى ذلك، الجيوش والميليشيات التي جلبها لتعاونَه في ذبح شعبه من إيران إلى روسيا، وليشهد «داعش» صاحب «إدارة التوحش» كيف تتفوقُ عليه في القتل دولٌ كبرى داخلة في النظام الدولي العظيم، ودائمًا بحجة مقاتلته، لإخراجه من المناطق التي سيطر عليها.
إلى منتصف عام 2012، ظلَّ بشار الأسد «يطمئن» الخائفين على نظامه الخالد المخلَّد بأنّ الجيش «العربي» السوري كفيلٌ بالقضاء على «فلول» الإرهابيين. بيد أن الإيرانيين الذين تغلغلوا في مسامّ النظام، قالوا له إنه يحتاج إلى المساعدة. ومنذ ذلك الحين، أي مطلع عام 2013، اجترحوا النهج الذي ساد في كل الحرب على الشعب السوري، أي نهج القتل والتهجير. لقد وضعوا لذلك نموذجًا في كل من القصير وحمص للإرعاب: ينقضّون على القرية أو البلدة أو المدينة، فإن لم يتمكنوا من تحطيمها لأول وهلةٍ كما كانوا يأملون، حاصروها وجوَّعوا الناس، إلى أن يتمكنوا بالقتل المنهك والحصار المهلك من تهجير البقية الباقية. وعندما لم يكن ذلك كافيًا، وتطور الوضع مرارًا وتكررًا باتجاه سقوط النظام، استجلبوا إلى ميليشياتهم اللبنانية والعراقية الأخرى الأفغانية والباكستانية. وفي عام 2015، نضجت الظروف، أو أنضجوها هم، لكي يغوص معهم بوتين ودولته العظمى العائدة في دم الشعب السوري. لقد افتخر الجنرال سليماني مرارًا، ليس بتجنيد عشرات الألوف من الميليشيات فقط، بل وبأنه هو الذي أقنع الرئيس بوتين بالتدخل الجوي الكاسح! وها هو عامٌ قد مضى، أو كاد، على ذاك التدخل الفظيع، وما ثنت المذابح الإيرانية والأسدية والروسية الشعب السوري، المسلَّح وغير المسلَّح، عن الصمود والمقاومة.
تحلُّ هذه الأيام ذكرى عاشوراء، واستشهاد الإمام الحسين. والشعارات التي ينشرها متحزبو العراق ولبنان، أولها: حين انتصر الدمُ على السيف! وهذه عبارةٌ ذات دلالة، لكنّ النصراليين والمتأيرنين يستخدمونها باتجاه واحد، يعتبرونه لصالحهم. 
في الاجتماع الدولي «السري» من أجل سوريا، بنيويورك، تشاتَمَ الأميركيون والروس، وانضمّ إلى الأميركيين الأوروبيون، في حين انضمّ إلى الروس الإيرانيون والصينيون. الصينيون قالوا إنهم غير مقتنعين بكلام الغربيين، لكنهم أيضًا غير مقتنعين بأنه لا يمكن أن تكون هناك هدنة من أجل إدخال المساعدات، ورعاية الجرحى والأطفال! بيد أن الجميع، بمن في ذلك الروس، تعجبوا للهجمات الصاعقة الأربع التي شنّها ظريف على صديقه كيري! أول مرة، قال له إنه يشك في نيات الولايات المتحدة، لأنها تأبى التعاون العسكري مع روسيا. وفي المرة الثانية، قال له: هذا دأبكم دائمًا؛ تقتلون القتيل وتمشون في جنازته! وفي المرة الثالثة، قال له: أنتم أكبر أنصار «داعش». وفي المرة الرابعة، قال له: أنتم أكبر إمبرياليات التاريخ. واكتفى كيري في كلَّ مرةٍ بالرد: يا رجل، ألسنا أصدقاء؟! ألا تعرفني وتعرفنا، وقد تفاوضْنا لسنواتٍ وسنوات؟! لقد جاءت خيبةُ أمل ظريف من أنه في مقابل تأخير إنتاج النووي، أعتقد الإيرانيون أنهم حصلوا، أو ينبغي أن يحصلوا، على ثمنين: فكّ الحصار، وإطلاق يدهم في العالم العربي! وقد كان منطق الأميركيين: لقد سكتنا عن اجتياحاتكم، لكنكم ما استطعتم السيطرة كما أمَّلتُم، فاستعنتم بالروس، وهذا الأمر لم نتفق عليه. فلا تستر عجزك يا ظريف باتهام الولايات المتحدة. لقد أعطيناكم، وأعطينا الروس، كلَّ ما اشتهيتم واشتهوا، فغصتم وغاصوا في بحور الدم، فماذا تريدون منا أكثر من ذلك؟ نحن ما اكتفينا بتعطيل كل الحلول، أو السكوت على التعطيل، بل أتينا لمساعدتكم عمليًا في العراق وسوريا. كيف نكون أنصار «داعش»، ونحن الذين نقاتله مع أصدقائنا، بينما لا تقاتلونه، لا أنتم ولا روسيا؟!
لقد اعتاد أحد الأصدقاء من المفكرين أن يجمع كل نقاط المشهد المقبض معًا، بحيث تنسدُّ كل الآفاق، ثم يقول: إلى أين من هنا؟! وفي سوريا انتهى الأين واللو والكيف. سوريا وسط الدم والخراب والتهجير، ولا مخرج في الأفق المنظور. إنما لماذا هذا كله؟ ماذا تريد إيران؟ وماذا تريد روسيا؟ تركيا لا تريد كيانًا كرديًا على حدودها، يضاف إلى مشكلاتها مع الأكراد في داخل الحدود. لكنّ السلوك الإيراني والروسي غير مفهوم، وغير معقول. ما المكسب الاستراتيجي، كما يقال، من وراء قتل الشعب السوري وتهجيره؟ وأي مكسبٍ هذا إذا بقي الأسد لفترةٍ مزيدة؟ هل يستحق بقاؤه هذا الثمن الباهظ جدًا؟!
ولنصل إلى ناهض حتَّر. لستُ شامتًا، ولا موافقًا على قتله. ولستُ أرى أنّ التهمة الموجَّهة إليه في الإساءة إلى الذات الإلهية تقف على قدمين، فابنُ الراوندي المُلْحد (كما سمّاه الخياط المعتزلي)، قضى خمسين عامًا، وما ترك أمرًا ولا شيئًا إلاّ وارتكبه، وما قتله أحد في العصور الوسطى التي يعتبرونها «مظلمة». على أنني إن تفهمت أو سكتُ على إلحاده، باعتبار أنّ الشأن هنا مثل الشأن في إبل عبد المطّلب، فإنني ما فهمتُ ولا مرَّة حماسه، وحماس القوميين العرب واليساريين العرب الأشاوس، لبشار الأسد. لقد عجزتُ منذ فترة عن قراءة مقالاته في جريدة «الأخبار» اللبنانية لأنها لا تُحتمل. كتب الرجل مرةً مقالةً في هجاء روسيا لأنها في «الراموسة» ما ساعدت الأسد بما فيه الكفاية! وردَّ مرةً على الذين استغربوا تهجير أهل داريا، فقال: إنّ هؤلاء ليسوا بشرًا، بل هم «زوائد»!
نعم، نحن مثل الشعب السوري، والشعب العراقي، والشعب اليمني، والشعب الليبي، زوائد. بل نحن العرب جميعًا - ومنا أنت كما تبين - زوائد! أما الاستثناءات ذات المعنى، فهي قليلة جدًا بيننا، ومنها الأسد ونصر الله والمالكي وأبو بكر البغدادي والدواعش الآخرون جميعًا. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.. ويا للعرب!