يرسم بعض مكوّنات «14 آذار» سواء في تيار «المستقبل» أو «القوات اللبنانية» سيناريو رئاسياً ينطلق من أنّ سعد الحريري قد حسَم خياره بالتخلي عن ترشيح سليمان فرنحية وبتبنّي ترشيح ميشال عون. وفيه: «يضغط «حزب الله» على نبيه برّي فتنعقد جلسة للمجلس النيابي في اليوم التالي وينتخب عون رئيساً للجمهورية». واللافت أنّ هذا السيناريو يلقى من يتفاعل معه أو يقتنع به حتى داخل «التيار الوطني الحر».تتولّد عن هذا السيناريو أسئلة بديهية: هل من عادة «حزب الله» أن يضغط على حلفائه؟ هل هناك سابقة له في هذا المجال؟ هل إنّ برّي من النوع الذي يُضغط عليه؟

يكفي الغوص في عمق العلاقة بين برّي والسيد حسن نصرالله ومن خلاله «حزب الله»، ومواقف كلّ منهما لاستخلاص الملاحظات الآتية:

أولاً، إنّ «حزب الله» بنيان متكامل، وكذلك حركة «امل»، وبالتالي لكلّ منهما شخصيته وقراره وخياره.

ثانياً، إنّ التحالف بين الحزب والحركة هو تحالف ندّي بالكامل «ملحوم» برؤية استراتيجية، وبثوابت أساسية بعضها شيعي وبعضها وطني، وقد تبدّى ذلك في محطات كثيرة ليس أقلّها الدور التاريخي الذي لعبه برّي في حرب تموز 2006 سواء مع القوى السياسية في الداخل، أو مع الخارج، او في الميدان، علماً أنّ المقاومة وساحة الجنوب هنا اكبر ثابتة استراتيجية تحكم العلاقة بين الطرفين، وهذه ثابتة جوهرها وطني تتجاوز بأهميتها البعد الشيعي المذهبي والطائفي.

ثالثاً، التحالف بين الحزب والحركة شكله شيعي، إنّما جوهره سياسي وطني بامتياز. كلّ طرف يعرف حدوده تماماً، ويُدرك حدود الطرف الآخر ويعرف الهوامش التي يتحرّك فيها الطرف الآخر من دون أن يمسّ جوهر هذا التحالف.

رابعاً، القاعدة المشتركة بين الحزب والحركة، في الموضوع الرئاسي وغيره من الموضوعات «قد تلتقي خياراتنا وقد تتقاطع وقد تتمايز وقد لا تلتقي وقد لا تتقاطع وقد لا تتمايز... لك خيارك ولي خياري، ولا ألزمك ولا تلزمني».

وثمة تمايزات كثيرة بينهما، وتجلّى بعضها في محطات أساسية مثل نزول برّي ونواب كتلته النيابية الى جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، وعدم نزول الحزب اليها، وكما جرى في تفاهم مار مخايل بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، حيث تعاطى برّي و«امل» مع هذا التفاهم إمّا من موقع المراقب عن بعد أو من موقع حليف الحليف او من موقع غير المنسجم مع هذا التفاهم، لا بل غير الملزم به.

خامساً، إنّ القول بإمكانية اخذ «حزب الله» لبرّي الى المكان الذي يريده في المكان الرئاسي، هو قول قائم إمّا على مغالطة كبرى، وإمّا على عدم فهم للوقائع، وإمّا على إرادة خبيثة قائمة على تشويه متعمَّد للوقائع والتلاعب بها، وإمّا على قصور عن إدراك الحقيقة الموضوعية للعلاقة بين الطرفين ولشخصية برّي السياسية، وللمعنى الحقيقي لموقعيته الزعاماتية، وكذلك المحورية على المستوى الوطني، والتي شكل من خلالها ولا يزال نقطة انفتاح على الجميع سواء من موقعه الوطني والحركي أو على رأس المؤسسة التشريعية، «هو صاحب مقولة «لا توجد عداوة بين اللبنانيين بل خصومة سياسية».

وكذلك نقطة الجمع والاستقطاب والتلاقي في زمن الانقسامات العمودية والافقية الحادة في البلد، أكان في الحوار الوطني الذي رعاه والمفقود مثله في كلّ المنطقة المشتعلة، او في الحوار الثنائي الشيعي - السنّي بين «حزب الله» وتيار «المستقبل» فيما المنطقة كلها تتقلب على نار الفتنة السنّية - الشيعية، لتجنيب لبنان هذه الكأس.

تبعاً لما تقدّم، فإنّ مستويات سياسية تقدم مجموعة إجابات وصفتها بالحاسمة، من وحي سيناريو الضغط، وكذلك المسار السياسي والرئاسي العام:

- إنّ ترويج سيناريو ضغط «حزب الله» على برّي محاولة تبريرية للتراجع وقذف لكرة المسؤولية وتغطية للفشل وإلقاء هذا الفشل على الطرف الآخر. وهو يندرج في سياق أو يكمل ما درج عليه اصحاب هذه المقولة التي اطلقتها «14 آذار» منذ العام 2005، حين حضر هؤلاء لنسف العلاقة بين برّي و«حزب الله »، وقاموا بمحاولات حثيثة لفصل برّي عن الحزب، ولطالما روّجوا آنذاك تارة بأنّ «برّي مخطوف»، وتارة ثانية بأنه «مغلوب على امره»، وتارة ثالثة بأنّ «الفرد براسو»... وما الى ذلك من كلام عن هيمنة الحزب وسطوته عليه!

- إنّ موقف برّي حاسم في الموضوع الرئاسي، حدّد خياره وهو ملتزم به، ويعتبر أنّ السبيل الوحيد للعبور الى برّ الأمان الرئاسي لا يتأمّن إلّا عبر نسج التفاهمات التي لا بدّ منها لمرحلة ما بعد الرئيس «الاتفاق على انتخاب الرئيس مهم وضروري، وكذلك الأمر بالنسبة الى رئيس الحكومة وتركيبة الحكومة. لكنّ الاهم هو القانون الانتخابي».

- إنّ موقف «حزب الله» حاسم لناحية التبني النهائي لترشيح عون، وهو يُعلن بصراحة ووضوح أنه على استعداد للنزول الى جلسة لانتخاب عون مع استعداده لتسهيل كلّ المتطلبات التي تدفع في اتجاه تحقيق هذا الانتخاب. لكنّ الحزب يعرف جيداً أنه ليس قادراً على فرض انتخاب عون، ولو كان قادراً لكان قد فرض هذا الانتخاب منذ بدء الشغور الرئاسي قبل اكثر من سنتين.

هو، أي الحزب، يتمنّى لو تأتي الرئاسة على قاعدة «صنع في لبنان»، لكنّه يُدرك صعوبة ذلك، ويعرف أنه لتكون الرقصة الرئاسية محكومة بمعادلة النجاح والشراكة تحتاج الى مجموعة من الراقصين: راقصون خارجيون، وأوّلهم الراقص السعودي الذي لم يدخل الى حلبة الرقص بعد، وثلاثة راقصين محلّيين، الراقص المسيحي والراقص الشيعي والراقص السنّي. والشرط الاساس في هذه المرحلة أن يكون الراقص السنًي حاضراً على الحلبة لكي تتكامل «الرقصة» وتصل الى الرئيس.

- إنّ تيار «المستقبل» يصعد ويهبط رئاسياً، بدأ بترشيح سمير جعجع، ثمّ دخل في حوار رئاسي مع عون، ثمّ عاد ورشّح فرنجية، ثمّ دخل في حوار رئاسي ثانٍ مع عون، وحالياً هو حائر ما بين فرنجية وعون.

هناك من يقول إنّ تيار «المستقبل» يعرف أنّ ترشيحه عون رسمياً سيؤدي في اليوم التالي الى عقد جلسة لمجلس النواب لانتخابه، ولكن ينتظر ليقول كلمته الحاسمة بترشيح عون أن يعبر الممرّ الإلزامي السعودي. والى أن تحين لحظة العبور يحاول أن يلقي الكرة في الاتجاه الآخر ويروّج بعض مستوياته لسيناريو ضغط «حزب الله» على برّي.

ولعلّ أبلغ توصيف لحال «المستقبل»، رسمه جعجع بكلّ دقة حينما تحدث عن صعوبة الامر داخل التيار وقال ما مفاده: عندما رشّح الحريري فرنجية خسِر نصف تيار «المستقبل»، وعندما سيرشّح عون سيخسر النصف الآخر وأنا أشجّعه على ترشيح عون؟! ولا بد من الاشارة هنا الى أنّ كثيرين ما زالوا يبحثون عن سرّ هذا التشجيع؟!


نبيل هيثم | الجمهورية