قبل نحو شهرَين، بلغ عامه التاسع. وكعادته في كلّ عام، أطفأ شموعاً بعدد سنواته، بعدما لعب كرة القدم مع زملائه في المدرسة. لم يفكّر في سوءٍ قد يحصل، وإن وقع حدثٌ أليم في عائلته. بكى حينها. لكنّه عاد إلى ملعبه الأخضر، ولعب كرة القدم، إلى أن وقع انفجار في منطقة فردان في بيروت. يعرف المكان جيّداً وكثيراً ما يمرّ به. في العادة، لا يُعبّر كثيراً. لكنّ الانفجار أرعبه، وإن لم يقتل أحداً، وإن سمع أنّه مجرّد رسالة سياسية من دون أن يفقه معنى ذلك. صغير هو على الخوف والتفكير في الموت. في اليوم التالي، رفض الذهاب إلى المدرسة. أخبر والداه بأنّه خائف ولا يريد الموت في طريقه إليها. لا يريد الموت في الصفّ. قالت أمّه إنّ المدرسة آمنة مثل البيت. "من أخبركِ أنّ البيت آمن أصلاً؟". حاولت طمأنته. كذلك فعل والده. ربّما ينسى ويعود إلى كرته. وقد نسي فعلاً. لكنّه أعلن عن خوفٍ من الموت. وليس أيّ موت. خاف أن يشتعل جسده الصغير. لا يريد ميتة كهذه. ألا يحقّ له اختيار الوقت والطريقة؟ أهو كبير كفاية ليطرح سؤالاً كهذا؟ لا. ما زال صغيراً يرغب في جمع صور لاعبي كرة القدم وأسنانه الحليب. ألا تجلب له الجنيّة الطيّبة الهدايا بعدما تسقط أسنانه؟

يؤمن بأن ثمّة حياة أخرى بعد الموت، وإن لا يعرف شيئاً عن الطائفة الدرزيّة والتقمّص. تسأله أمّه إن كان يعتقد أنّه عاش حياة أخرى. "لا، أنا جديد"، يقول. الصبيّ نفسه يبدو أنّه حسم أموراً عدّة في المستقبل. كانت والدته تضع بعض الألعاب في العليّة، وأخبرته أنّ أطفاله قد يلعبون بها في المستقبل. "من أخبركِ أنّني أريد الزواج؟ لن أتزوّج ولن أنجب الأطفال، بل سأجول حول العالم".

طفلٌ آخر لم يتجاوز سنواته الخمس. اسمه فراس. يحبّ اسمه. في مثل سنّه، لا يعرف أسماء كثيرة. يقول إنّه يحبّه من دون مقدّمات، ومن دون أن يسأله أحد. يطلب اسماً آخراً، ليس له، بل لشقيقته. الشقيقة ليست موجودة لكنّه يطالب بها. يريدها في أقرب وقت ليلعب معها. كيف تأتي؟ يسأل. تخبره والدته بأنّ بطنها ستكبر رويداً رويداً، ثم يُخرج الطبيب المولود، "مثل القصة التي نقرأها". متى؟ تجيبه مازحة: ما رأيكَ في الغد؟ لا، اليوم. سوف يسميّها على اسم شقيقة صديقه نور، و"أصير شقيقها وتصير شقيقتي". ذات يوم هاتفه صديقه الصغير. ماذا فعلت اليوم؟ أجابه فراس بأنّه رافق والده لشراء "الكنافة". وأنت؟ "لعبتُ في المتجر الكبير. غداً أحضر لك شوكولا لذيذة".

ماذا يحكي الصغار؟ يقلّدون الأكبر سناً ويدمجون الخيال بالواقع. منطقيّون هم. وما سبق قليل عليهم. يفكّرون كثيراً ويتفاعلون مع محيطهم بعفوية. يكرهون فلا يقتربون من هؤلاء الأشخاص. هم قادرون على التمييز بين الخير والشرّ. ما حدث آلمهم. قد لا يقولون هذه الكلمة. ربّما يبكون أو يقلبون شفاههم. وهذه لغة. ضلّ والد لين طريقه وتأخّرا في الوصول إلى البحر. "لماذا ارتديتُ لباس البحر إذاً؟". تسألُ غاضبة. بالنسبة إليها، يجب أن تصل بسرعة، هي التي استعدّت للذهاب إليه. وبعد، ماذا يحكي الصغار؟ يفكّرون في أحداثٍ تجري من حولهم. توفّي جدّ كريم. عرف أنّ جدّه صعد إلى السماء لأنّه بلغ المائة. "هل أصعد إلى السماء حين يصير عمري مائة". لا أحد يعرف. هل أصبح جداً حين أبلغ المائة، ويصير لديّ أطفال؟ يقول إنّه سوف يلعب معهم. هو في الرابعة من عمره. وحين يلعب مع جارته في المبنى الذي يسكنه، والتي تكبره بعام ونصف العام، يتحدثان كثيراً عن إنجازات صغيرة. "قفزتُ من على علوّ درجتَين، أو أنّني قادر على غسل يدَيّ من دون مساعدة أحد". عالمهم صغير. على الأرجح هذا ما نظنه. هم أقدر من الكبار على الالتزام وعلى قول كلّ شيء، طالما لم يقمعهم أحد. قد يشكو طفل لجدّته من أنّ والده تجاوز إشارة المرور، أو شتم أحدهم. وبصوت خافت، يُكرّر الشتيمة. ويبتسم. أو يبتسمان.

في إحدى المرات، وجدت بسمة (ست سنوات) ورقة شجر على شكل قلب في باحة المدرسة. التقطتها وأرادت إهداءها إلى أمها. أقنعتها صديقتها بأن تعطيها إياها لبعض الوقت، من دون أن تعيدها إليها. تقول أمها إنها صارت تفكّر في خطة لإقناع صديقتها بأن تدعوها إلى تناول الغداء عندها، فتبحث عن الورقة التي أخذتها منها.

في هذا السياق، تقول ليا، وهي حاضنة أطفال، إنّ الصغار عادة ما يخبرونها بما فعلوه في بيوتهم. مثلاً، "لعبتُ مع شقيقي في البيت، أو أكلتُ البيتزا، أو استخدمتُ عطر أبي، أو أنام جيداً لأصير كبيراً مثل أبي". تذكر أنّ أحد الأطفال دائماً ما يحاول الاحتيال عليها. تشير إلى أنّهم حين يلعبون مع بعضهم بعضاً، قد يأخذ أحدهم دور البائع ويدعو زملاءه في الحضانة إلى شراء "منقوشة الزعتر" منه. في إحدى المرات، تجشّأ أحدهم، فاعترض آخر. تلاحظ أنّ الأطفال اليوم أكثر وعياً. من جهةٍ أخرى، تشير إلى أنّ ثمّة فتيات صغيرات يضعنَ أحمر الشفاه أو طلاء الأظافر خلال ذهابهنّ إلى الحضانة. وهذا لا يشبه طفولتهنّ.

من جهتها، تقول المعالجة النفسية نايا سويدا إنّ قدرة التعبير لدى الأطفال تقتصر على ردّات الفعل الغرائزيّة في السنة الأولى من حياته. أما قدرة التعبير من خلال اللغة، فتأتي تلقائياً بعدما يتعلّم الكلام. تدريجياً، يصير قادراً على التواصل مع العالم الخارجي. تضيف أن الحوار بين الأهل والطفل أمر مهم جداً كي يستطيع الأخير إدراك أهميّة مشاعره وأحاسيسه التي تشكّل عنصراً أساسي في نموّه من الناحية النفسيّة، وتكوين هوّيته الشخصيّة والإجتماعيّة.

تتابع أنّ القصص تساعد الأطفال على التعبير عمّا قد يقلقهم أو يُفرحهم، خصوصاً أن قدرة التعبير لدى الأطفال تنطلق مما هو ملموس وآني. من خلال القصص، يزوّد الأهل أطفالهم بأدوات تسمح لهم بإدراك مشاعرهم من خلال التماهي مع شخصيات تشبههم أو تعاني من مشاكلهم نفسها.

من جهةٍ أخرى، تشير سويدي إلى وجوب أن يدرك الأهل أنّ "لا مثالية في التربية". كذلك، لا بدّ أن يتخطى الأهل الطفل المتخيّل الذي لطالما حلموا به، والتعامل مع أطفالهم كما هم وذلك من خلال الإستماع إليهم "ووضع أنفسنا في مكانهم".

(العربي الجديد)