الحركات الأصولية الإسلامية (بوجهيها السّني والشيعي) ما زالت قادرة على تعبئة جيش كبير من المناضلين المستعدين لتقديم كل التضحيات، رغم الخسائر البشرية الهائلة التي تكبدتها خلال الحروب الدامية التي رافقت أحداث العراق وسوريا واليمن وليبيا، وهذه الحركات، وللأسف، تلاعبت بها أنظمة "الاستقلال- الحزب الواحد" وغذّتها أموال الوفرة النفطية بالمساجد والمطبوعات وإعداد الدّعاة، والميزانيات الضخمة "للجهاد" المزعوم، فاعتنقت هذه الحركات (وكما قلنا سُنّة وشيعة) العنف مساراً إلزامياً للتعبير عن الطاقات الهائلة والكامنة بين جوانحها، والعنف متلازم طبعا مع التقديس، وهذا الثنائي مرتبط بالحقيقة، فتصبح الحقيقة بدورها مقدسة، وتستحق عندها سفك الدماء، والحقيقة تتبدّل وتتلون حسب الأهواء والظروف السياسية المستجدة، فهي مرة مقارعة العدو الخارجي (إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية مثلاً)، وتارة منازلة الحاكم الداخلي (بسبب ظلمه وبغيه) وفي بعض الأحيان (حماية نظام من السقوط أو الاستيلاء على الحكم، وهذه الحقيقة ليست جوهراً، أو شيئاً مُعطى بشكل جاهز ونهائي، وإنّما هي تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي ومعنوي وواقعي قد ينهار لاحقاً كي يحُل محلّه تركيب جديد، أي حقيقة جديدة (زوال الاحتلال، والأنصراف للصراعات الداخلية)، فالحقائق تنهار وتموت حسب التصورات الابستمولوجية الحديثة، وليست أبدية أو خالدة كما يتصور اللاهوت القديم أو الميتافيزيقا المثالية، وهذا ليس بالأمر اليسير، عند حركات متصلبة فكريا وعقيدياً ، لذا نجدها في الغالب تقف أمام الامتحان العسير عندما يحين موت حقيقة وولادة حقيقة جديدة.
أولاً: السياسي على حساب الروحي..
حولت الحركات الأصولية (وهي دينية في الأساس) الدين إلى سلاح إيديولوجي وسياسي أفقده الكثير من روحانيته المتعالية وتنزيهه المفترض، فغدت مقولات الدين عرضة للتلاعب في أرض الصراعات اليومية والمناورات السياسية المحتدمة والمتقلبة، ولم يتنبّه الغيارى على هذه الحركات والمجموعات أنّ المشروع السياسي اقتات من الطاقة الروحية أكثر من اللازم وأطول ممّا ينبغي، وتمّ كل هذا في غياب المرافق الضروري والمساند.
ثانياً: المُرافق الفقهي واللاهوتي الغائب..
إذا كانت هناك حاجة لوقف عمليات الانتحار الجماعي الجارية هذه الأيام بوجوه مرعبة، والحفاظ على هذه الطاقات النضالية، فإنّ الواجب اليوم على أوصياء هذه الحركات أن يبذلوا جهودا مضاعفة لرفدها بفعالية تفسيرية وفقهية منفتحة وخلاقة، كي تشكل المرافق الفكري المنفتح والنابذ للعنف للعقائد والطقوس الدينية والشعائرية التي شبّ عليها رجال هذه الجماعات، وهذا المساعد لا بُدّ أن يعيد الاعتبار اولاً للبعد الروحي المؤدي فعلا إلى التواصل مع الله عزّ وجل، والقطع مع أدبيات الملل والنحل والمذاهب المتنافرة، وهذا لا يعفي المتنورين والليبراليين والمشتغلين بالعلوم الإنسانية من بذل الجهد اللازم للانفتاح على قضايا المسلمين وهمومهم وآفاقهم في زمن انهيار الأيديولوجيات التبشيرية العلمانية في الغرب، ونهاية اليقينيات حتى في مجال العلم البحت كما يقول العالم البلجيكي إيليار يغوجين، والحضارة العالمية تعيش الآن أزمة قيم، وحتى الحداثة الغربية لم تعد واثقة من نفسها كما كانت في الماضي القريب، واليوم يكاد أن يحصل إجماع على أنّ التراث الإسلامي لم يتعرض منذ فترات طويلة لأي تحليل نقدي، ولم يعد ممكنا تحاشي الثورة العقلية الكبرى التي ولّدت الحداثة، التي حررت الشرط البشري من العراقيل والقيود، وللأسف، وحتى اليوم لم تحطّ رحالها في بلادنا.
كلمة أخيرة: قد يرى كثيرون أنّ هذه دعوى طوباوية إضافية ولا لزوم لها، فالواقع يُكذّب الأماني والتفاؤلات، وهذا صحيح، لكن لا بُدّ من التفكير بذلك عندما تحين ساعة الحقيقة المرة، وتنجلي كوارث الحرب المدمرة والتي تخاض على أرض "المجاهدين" بأيديهم ولات ساعة مندمّ.