ثلاثة نماذج أجدني مشدودا نحو كتابة هذه السطور للإشارة إلى مبادراتها ونجاحها وتقدمها السياسي والاجتماعي والمهني، في زمن صعب، تتراجع فيه المبادرات وتتلاشى الإرادات، ويسود الخوف والتردد والتخلي عن المسؤوليات.
نطرح هذه المبادرات ليس من باب التسويق الشخصي، فلا نحن ولا أصحابها يحتاجون دعاية شخصية، لكننا نريد من خلال تسليط الضوء عليها أن تشكل حافزا لآخرين يقفون على حافة المبادرة وعلى تخوم الإقدام، حتى يشكلوا حالة مضيئة في زمن اقتراب الظلام واسوداد الآفاق.

محمد سلهب: نهضة أكاديمية ومصداقية سياسية
بمثابرة ودأب وإصرار، وصل الدكتور محمد سلهب بـ"جامعة التكنولوجيا والعلوم التطبيقية اللبنانية الفرنسية"، إلى يوبيلها العشرين هذا العام لتصبح في مصاف الجامعات الكبرى في لبنان بفروعها المنتشرة شمالا وبقاعا، بانتظار أن تحيل وزارة التربية والتعليم العالي ملف فرع بيروت إلى مجلس التعليم العالي، بعد استيفائه الشروط الأكاديمية منذ قرابة العامين، تمهيدا لنيل الترخيص في مجلس الوزراء.
نهضة علمية قوامها الاختصاص والتنمية
استطاع الدكتور سلهب خلال سنوات عمله الأكاديمية العشرين أن يبني نهضة علمية حقيقية في طرابلس والشمال، من خلال مستوى متقدم من التعليم المواكب لمتطلبات التكنولوجيا والعلوم المعاصرة، والأهم من هذا أنه تمكن من توفير فرص العمل لأعداد كبيرة من الخريين، نظرا لمواكبة الجامعة سوق العمل، وفهم متطلبات واحتياجات هذا السوق بشكل متواصل.
يشرح سلهب أبعاد استراتيجيته الأكاديمية بالقول:"اعتمدنا في مسيرتنا على دراسة حاجات العمل والانتاج وتطوراتها الكثيرة والمتلاحقة، وكذلك اعتماد نظام الابحاث التي تؤهل الطالب لمتابعة التطورات في مجال التحصيل العلمي وكذلك في مجال عمله بعد حصوله على الشهادة. وقد اتبعنا في العام 2002 نظام الارصدة الاوروبية وكان لنا تعاون مع كبريات الجامعات الفرنسية، يشمل الطلاب والاساتذة لتجديد برامجنا بشكل دوري لتتلاءم مع التطورات واجراء الابحاث العلمية المشتركة مع الجامعات الفرنسية، مشددين على ان تركز الجامعة على الابحاث ذات الابعاد الانمائية في محيطنا المناطقي والوطني". 

وأكد على "اتخاذ المنحى لاعتماد جودة التعليم منذ سنوات، بالتعاون مع الجامعات الاوروبية. وتم تحويل جمعيتنا ("للجمعية الفرنكوفونية للتنمية والتعليم العالي") الى الجامعة الحالية في العام 2007 تماشيا مع تطلعاتنا. وتم انشاء كلية هندسة بفروعها الاربعة اضافة الى كلية العلوم والادارة والتكنولوجيا. وتوسعت الجامعة الى فرعين الاول في شتورا والثاني في المتن بانتظار فرع بيروت الذي نعمل للتأسيس له".
وشدد على "تعاون الجامعة مع مؤسسات العمل والانتاج منذ البداية، ومن العوامل الاساسية التي اهلت طلابنا لتبوؤ مراكز مهمة في اسواق العمل والانتاج وتجنب البطالة اعتماد الجامعة نظام التدريب مع كبرى المؤسسات الوطنية والفرنسية"، مركزا على العمل لتطوير البرامج، ومنوها بالعديد من الابحاث التي اجرتها الجامعة مع جامعات الخارج لاسيما مع طوكيو، والمؤتمرات الدولية التي نظمتها الجامعة للتبادل العلمي والثقافي".
وقال: "نتطلع لافاق جديدة، فطلابنا يساهمون ببناء الوطن والعديد من بلاد الاغتراب لاسيما الخليج العربي وفرنسا وكندا، ونحن على تواصل مع جمعية الخريجين للاطلاع على نجاحاتهم"..
لقد وازى الدكتور سلهب بين نجاحه الأكاديمي ورؤيته الإصلاحية للواقع اللبناني، فأسس مع نخبة من المثقفين وأصحاب الكفاءات "التجمع الدستوري الديمقراطي" وأعطى نموذجا مختلفا في الخطاب السياسي البعيد عن أساليب الاستقطاب الشعبوية المعتمدة على الإثارة الفارغة، وذهب نحو اعتماد سياسة التثقيف والتوعية للرأي العام بحقوقه وبسبل بناء مستقبل آمن ومزدهر، لذلك، فهو يثير الملفات السياسية والاقتصادية من زواية تخصصية تحمل الحلول ولا تكتفي برفع الصوت والشكوى دون أي طرح بديل.
يشكل الدكتور محمد سلهب نموذجا مختلفا في العمل العام: فهو مستقل يبني المؤسسات الأكاديمية ويبني معها الأجيال والمستقبل، ويكرس أسلوبا بعيدا عن الإفساد المالي للجمهور، وأكثر قربا من الواقع بناء على رؤية علمية صحيحة، ورغبة صادقة في الإصلاح والتطوير والتنمية.
هذا النموذج الذي يطرحه الدكتور محمد سلهب هو النموذج الذي يستحق الدعم والمساندة في مدينة طرابلس، التي تعاني المرارات نتيجة سياسات بائسة أفضت بها إلى أن تكون أفقر مدينة على ساحل البحر المتوسط.

زينة المصري: 
تفانٍ مشهود وتسلّح بالقانون في مواجهة ثقافة الضغط على القضاء

تقف (المحامية) زينة المصري أمام قوس العدالة متسلحة بترسانة من الثقافة القانونية والحضور المتمكن، ومتمسكة بمنطق الحق في الإنصاف، وبالرصانة والثبات في مواجهة تحديات العدالة، رغم ما تعلمه من تراجع منطق العدل وتقهقر ثقافة القانون والضغوط الهائلة التي يتعرض لها القضاء..
استطاعت زينة المصري أن تستقوي بالقانون على الاختراق السياسي وعلى الإفساد المالي، وبهدوء ودون ضجيج تأخذ ملفات موكليها إلى مساحة الفرص الممكنة من خلال فرض الوقائع في المطالعات وتسجيل النقاط لصالح الحق في العدالة للمواطنين.
ترفض زينة المصري التمييز الحاصل، ولا تقبل بمصطلح "الموقوفين الإسلاميين" لأنها تعتبر أن هذه القضايا لا يجب نسبتها للإسلام، لأنه إذا صحت النسبة، يكون القضاء اللبناني يحاكمهم لأنهم إسلاميين أو مسلمين، وهذا غير صحيح، بل وشديد الخطورة بمدلولاته القانونية والدستورية والعملية.
تصرّ زينة المصري على هذه المعادلة، لترفض تاليا ما تحاول قوى الأمر الواقع فرضه على الأجهزة الأمنية والقضائية، بحيث يصبح "الإرهاب" تهمة محصورة بالشباب السنة في لبنان.
وللإسهام في الدفاع عن شباب حولتهم ظروفهم إلى موقوفين في قضايا كبرى، من دون أن تتوفر للكثيرين منهم فرصة الحصول على الدفاع القانوني اللازم، كانت زينة المصري من أوائل وأبرز المحامين الذين تققدموا للتوكل عن موقوفي ملف عبرا تطوعا، إلى جانب الأستاذ محمد مراد وآخرين..
في أواخر شهر رمضان الفائت (7/6/2016) كانت جلسة الحكم على أعداد من المتهمين في ملف عبرا، كانت معايير العدالة في تلك الأحكام أقرب إلى الواقع، نتيجة الجهود التي بُذِلت لفصل ملف هؤلاء عن ملف الشيخ أحمد الأسير، وكان للمحامية المصري دور إيجابي في المسار القانوني منها..
ذلك المساء الرمضاني، كانت المحامية المصري تقف وحيدة في المحكمة العسكرية، متابعة الأحكام الصادرة.. أفطرت على قطرات من الماء، وعملت على مساعدة جميع من خرج بموجب الأحكام الصادرة، من موكليها ومن سواهم، على إنجاز معاملات الخروج، فكانت تقوم بالاتصال بذويهم لعدم السماح لهم بالاتصال من داخل المحكمة، وتؤمّن تواصلهم مع الأهل حتى وصولهم إلى منازلهم.
تتابع زينة المصري من خلال عضويتها في هيئة رعاية السجناء وعائلاتهم التابعة لدار الفتوى بأوضاع السجون، وهي زارت سجن رومية وتواصلت مع الجمعيات والهيئات الناشطة في مجال التأهيل والتدريب للمساجين، وسرعان ما تعاونت مع الناشطة زينة دكاش مسؤولة المركز اللبناني للعلاج بالدراما "كثارسيس" وبدعم من الاتحاد الاوروبي في مشروع تعديل القانون المتعلق بتحسين الوضع النفسي والقانوني لشريحتين منسييتين من السجناء، الأولى تتعلق بالسجناء ذوي الأمراض النفسية مرتكبي الجرائم، والثانية تشمل المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة أو بالإعدام، الذين لا يمكنهم تخفيض عقوباتهم رغم ان القانون أجاز لهم ذلك، ولكن بشروط شبه مستحيلة، كاستحصال السجين على إسقاط للحقوق الشخصية من ذوي الضحية أو دفع التعويضات الشخصية التي غالبا ما تكون قيمتها مرتفعة، وقد تصل الى 500 مليون ليرة لبنانية، ولا طاقة للسجين على دفعها.
وضعت المحامية المصري ملاحظات جوهرية على مشروع التعديل وأعطت زخما وحيوية للمواد المطروحة للتعديل.
نشطت زينة المصري في المجال الحقوقي العربي وشاركت في مؤتمرات محلية وخارجية، وباتت وجها مشرقا من وجوه العمل الحقوقي النسائي المتقدم، في لبنان والعالم العربي.
استطاعت أن تتفاعل مع الإعلام بشكل متزن، فباتت وجها مألوفا عند اللبنانيين من دون أن تنزلق إلى أفخاخ التسرّع والانفعال..
زينة المصري؛ نموذج إيجابي يحتذى في السلوك المهني والحقوقي، ويستحق الثناء والدعم والتقدير.

 النقيب عامر أرسلان: مبادرة لدعم المدرسة الرسمية في طرابلس

 في خضم الضجيج الطرابلسي المتلاطم حول السياسة والإنماء، كان النقيب عامر أرسلان يعمل بصمت على مشروع يهدف إلى تحسين البنية الأساسية لعشرين مدرسة رسمية في طرابلس والميناء، تم تجهيزها بالأثاث وبوسائل المعلوماتية والتكنولوجيا والأدوات المكتبية، بالتعاون مع سفارة تشيكيا في لبنان.
احتفلت طرابلس بهذه المناسبة، ولكن اللافت أن هذا المجهود قد حصل بمبادرة هادئة وفاعلة، تركيت آثارها المباشرة، على أبناء طرابلس الذين يتلقون تعليمهم في مدرس الدولة، التي تترك مدارسها متهالكة في كثير من الحالات بعيدا عن متطلبات الصيانة، وبالطبع بعيدا عن آليات التطوير التربوي المطلوبة، ليستطيع التعليم الرسمي تضييق الهوة ومواكبة التعليم الخاص.
أعلن أرسلان سعيه للعمل مع الحكومة التشيكية، على أن "يكون هناك هبة مالية سنوية وفيرة لطرابلس، تستخدم في تطوير مدارسها الرسمية من أجل تأمين كل مستلزمات الحياة التربوية اللائقة لطلابنا ولأبنائنا"، مؤكدا أن "ما قمنا به يساهم في رفع المستوى التربوي في طرابلس من خلال الإهتمام بالتعليم الرسمي الذي يحتضن الفقراء الذين من حقهم أن ينعموا بالعلم النافع وبالمباني الجيدة واللائقة والملائمة".
وقال: "نحن اليوم من خلال تطوير مقدرات مدارسنا الرسمية، نخوض حربا ضد الجهل، وضد الأمية وضد كل ما هو بائد وترتيب. نخوض حربا ضد الاهمال الرسمي، وضد الحرمان، وضد التهميش وضد سياسة إدارة الظهر التي جعلت مدينتنا أفقر مدينة على ساحل المتوسط. نخوض حربا ضد الفقر، وضد البطالة، وضد التسرب المدرسي، وضد عمالة الأطفال، وضد الأزمات الاجتماعية التي فاقمتها السياسات الخاطئة تجاه طرابلس الحبيبة".
اضاف: "نخوض حربا ضد الفساد والهدر والصفقات والسمسرات وضد تغليب المصالح الشخصية الضيقة على المصالح العامة، وضد سرقة المال العام ونهب موارد الدولة. 
وتابع: "عملية التنمية في طرابلس تحتاج الى قرار، وعلينا أن ننتزع هذا القرار. ولن نسكت بعد اليوم على تهميشنا، ولن نسكت بعد اليوم على حرماننا، فنحن ندفع الرسوم والضرائب لكي نحصل على حقنا بالانماء، وليس لكي نتفرج على إنماء مناطق غيرنا، ولن نسكت بعد اليوم على مشاريع لا تقر، وإذا أقرت لا تنفذ، وإذا نفذت لا تراعي دفاتر الشروط، فمشاريعنا حق لنا في الاقرار وفي التنفيذ وفق أفضل المواصفات، لكي تليق بطرابلس درة هذا الشرق". 

ربما لم تستطع مبادرة النقيب أرسلان أن تغير كل واقع القطاع التربوي في طرابلس، لكنها شكلت علامة فارقة في سعي المجتمع المدني من أجل إحداث التغيير الملموس، وإن كان محدودا، لحاجات مجتمع تزداد الثغرات فيه على جميع المستويات.
مبادرون في غياب الدولة..
إن تقديم هذه النماذج ليس سوى عينة مما يزخر به مجتمعنا، من قدرات وإمكانات، نأمل أن تتسع دائرة تفاعلها على جميع المستويات، على غرار ما اعتاد اللبنانيون فعله في غياب الدولة، الذي يبدو أنه سيطول..!!