يُعطي باحثون أميركيّون جدّيون أهميّة كبيرة لإخلاء داريا القريبة من وسط دمشق من الباقين فيها من مدنيّين ومقاتلين، ولدخول القوّات النظاميّة السوريّة إليها بعد اتفاق النظام وهؤلاء على تفاصيل العمليّة. وما كان ليتمّ ذلك لولا سياسة "الجوع أو الاستسلام" التي طبّقها الرئيس الأسد والتي تحوّلت أخيراً إلى "الحرب أو الاستسلام". ويعود الاهتمام المُشار إليه إلى أن عمليّة داريا ليست خطوة معزولة. إذ سبقتها اتفاقات مماثلة مع سكان ضواحي سُنّية عدّة لدمشق. وستتبعها اتفاقات أخرى وخصوصاً بعدما بدأ المسؤولون السوريّون يسعون إلى السيطرة على معضمية الشام وهي أيضاً من ضواحي دمشق. ويعود ثانياً إلى الهدف من هذه العمليات وهو حماية العاصمة دمشق والقصر الرئاسي من "الثوّار" بإغلاق الثُغر والممرّات التي يمكن أن يستعملوها للتسلّل إليها أو لقصفها. ويعود الاهتمام ثالثاً إلى التدخّل المباشر للميليشيات الشيعيّة اللبنانيّة والعراقيّة والأفغانيّة والباكستانيّة وغيرها في إخلاء ضواحي العاصمة من سكّانها ومقاتليها السُنّة، وتحديداً إلى كونها إيرانيّة الإيديولوجيا والمذهب والامرة. إذ يعني ذلك أن للقيادة الإسلاميّة العليا في طهران مصلحة مباشرة في السيطرة على هذه البلدات – الضواحي التي ستكون مع دمشق جزء من "سوريا المُفيدة" الإيرانيّة التي قد تختلف عن "سوريا المُفيدة" الروسيّة، وفي الوقت نفسه جزءاً من "الهلال الشيعي" الذي كان دائماً أولويّة لطهران في المنطقة ولا يزال كذلك. لهذا السبب سيستمر تنفيذ "سياسة التجويع أو الحرب والاستسلام"، إذ لا تزال هناك مناطق لا بدّ من استعادتها لأنّها تشكّل امتداداً لدمشق مثل الغوطة والزبداني ومضايا واليرموك وغيرها. و"سوريا المُفيدة" الإيرانيّة تعني سوريا العلويّة أو المحكومة بالعلويّين والمأهولة بهم أو بغالبيّتهم وكذلك بشيعة غير سوريّين وإن بقيت فيها أعداد من السُنّة تقبل هذا الواقع أو تجد فيه مصلحة لها أو لا مكان آخر لها تلجأ إليه. والفرز السكّاني على أساس مذهبي يؤكّد ذلك، إذ أن سكان الضواحي المُخلاة يتوجّهون إلى شمال سوريا وكذلك سكان مدن مهمّة فيها مثل حمص وغيرها.
ما هي الصورة النهائيّة لسوريا التي تعمل إيران على رسمها ميدانيّاً؟
تشتمل هذه الصورة على "كوريدور" أي ممرّ يصل القلمون بدمشق وحمص والمنطقة العلويّة التي يُرجِّح الباحثون أنفسهم أن تُصبح خالية من السُنّة تقريباً. ومن شأن ذلك تمكين "حزب الله" من الوصول إلى مرتفعات الجولان وتالياً من فتح جبهة ثانية ضد إسرائيل إذا قرّرت طهران ذلك (الأولى هي لبنان). كما من شأنه زيادة المساعدات لـ"حماس" الفلسطينيّة. وهذا "الكوريدور" يجب أن يُرى في إطار إقليمي، ذلك أنه سيصل إيران والعراق بـ"سوريا المُفيدة" التي تكاد أن تكتمل وبلبنان (البقاع والجنوب على الأقل). وسيكون مهمّاً رغم الغياب المحتمل للاتصال الجغرافي بين "عراق إيران" و"سوريا المُفيدة"، إذ أن الاتصال بين الأخيرة ولبنان "حزب الله" سيعوّضه.
هذا المشروع لا يبدو أن إيران ستتخلّى عنه في سهولة سواء وافقت عليه أميركا وروسيا أو لا. وعلى الأقل ستحمي "سورياها" إذا اضطرّت إلى تقليص دعمها جزئيّاً لـ"الكوريدور" كلّه.
طبعاً لا يعني ذلك عدم وجود تحدّيات أو عقبات للمشروع الإيراني المشروح أعلاه. أولاها أنه لا يزال على الأسد "تنظيف" كل المناطق التي ستكوّن "سوريا المُفيدة"، وليس ذلك سهلاً. وثانيتها سيكون "هلال إيران" مطوّقاً ببحر من السُنّة، وسيُفاقم عداءهم للشيعة وسيجعله معرّضاً للاختراق والعمليّات العسكريّة أو الإرهابيّة. ولتأمينه ستضطر إيران إلى تأكيد سيطرة "حزب الله" على مؤسّسات دولة لبنان وإلى مساعدته بقوّة لإحكام سيطرته على البقاع وأهله وفي مقدّمهم السُنّة. كما ستضطر إلى تقوية سيطرتها على دولة العراق ومؤسّساتها الدينيّة وذلك بجعل هيمنة ميليشياتها الشيعية حقيقة سياسيّة. وثالثة التحدّيات أو العقبات احتمال عدم انشراح "شعب" "حزب الله" في لبنان لكلفة استمرار انخراطه في حروب ومشروعات إقليميّة وخصوصاً البشريّة منها. لكن ذلك، يُلفت الباحثون الأميركيّون أنفسهم، لن يثني إيران عن التمسّك بهدفها. إلّا أنّه سيُضاعف مخاوف مجلس التعاون الخليجي والسُنّة في المنطقة. كما أنّه قد يُقلّل حظوظ أي تسوية سياسيّة في سوريا إلّا إذا أخذت في الاعتبار أخطار هيمنة إيران على المنطقة. ويعني ذلك أن التسوية يجب أن تكون "شاملة وعادلة" ومراعية لمحيط سوريا وتحديداً العراق ولبنان. وإذا لم تكن كذلك فإن الحرب الأهليّة المذهبيّة السوريّة قد تلتهم المنطقة.