طالت هذه السلسلة من "الموقف هذا النهار" أكثر ممّا أردت ربّما بسبب الحرص على الإحاطة بمواضيعها وعلى الموضوعيّة في آن. لكنّها ليست تأريخاً كما قلت بداية ولذلك فإن حلقة اليوم هي الأخيرة.
أولاً، يُلاحَظ ومنذ الشغور الرئاسي الطويل انقسام جديد عند المسيحيّين. الأوّل بين الأحزاب والتيّارات من جهة والسياسيّين المستقلّين سواء كانوا ذوي حيثيّات شعبيّة أم لا من جهة أخرى.
وقد بدأ ظهوره في أثناء الإعداد للانتخابات النيابيّة قبل سنوات، لكنّه تراجع كثيراً بعد تمديد النوّاب لأنفسهم، وعاود الظهور وبقوّة في الانتخابات البلديّة الأخيرة، إذ خاض الفريقان معارك طاحنة. ولم تكن النتائج مريحة كثيراً للأحزاب رغم فوزها بنسبة تمثيليّة جيّدة. لكنّها قطعاً أكبر وبكثير من الـ 6 في المئة التي اخترعها الوزير جبران باسيل. وهذا الصراع مستمرّ لأن الأحزاب المسيحيّة المُعتادة على الإلغاء تريد إلغاء المستقلّين قبل أن تُعاود عمليّة إلغاء بعضها بعضاً.
ثانياً، يُلاحَظ إنقسام بين الأحزاب والتيّارات المسيحيّة نفسها التي يمكن تلخيصها بأربعة هي "التيّار الوطني الحر" و"القوّات اللبنانيّة" و"الكتائب" والمردة". كما يُلاحَظ صراع بينها يجب عدم الاستهانة به. فالأبرز شعبيّاً فيها إثنان "القوّات" و"التيّار". وهما سارا منذ مدّة في تحالف بعد عداء دامٍ دفع ثمنه المسيحيّون من دورهم ودماء أبنائهم. والتكهّن في مصيره صعب لأنّه حديث السن، ولأن التحالفات المسلمة لكلٍّ من طرفيه متناقضة جدّاً. و"المردة" لا يدّعي حجماً شعبيّاً لنفسه أكبر ممّا هو لأنّه مناطقي كما قال العونيّون مع امتدادات شعبيّة تَضْعُف باطّراد. أمّا "الكتائب" فإنّه لم يبلع بعد وخصوصاً مع رئيسه الجديد الشاب سامي أمين الجميّل أنه صار الأضعف تمثيلاً، بعدما استقطب خلال الحروب غالبيّة مسيحيّي لبنان، وأوصل إثنين من أعضائه إلى رئاسة الجمهوريّة. كما لم يبلع أن الطرفين الأكبر اليوم خرجا من رحمه وهما "القوّات" و"التيّار الوطني الحر". طبعاً التنافس بين الجميع شرعي لكن يجب أن يكون حكيماً كي لا تؤذي نتائجه المسيحيّين ثم أصحابه فلبنان. إنطلاقاً من ذلك ربّما على الرئيس سامي أن يكون واعياً لأنّه لا يزال في بداية الممارسة السياسيّة الفعليّة في لبنان وهي صعبة جدّاً. ويجب أن لا تَعْميه الرغبة الجامحة في استعادة الأمجاد عن الحقائق الموضوعيّة تلافياً للأخطاء، وقد وقع في عدد منها أبرزها ثلاثة. موقف غير مدروس أخرج الحزب من الحكومة وأظهر عدم انضباط ممثّليْن له فيها. وموقف مُشابه أغرق المتن منطقته وكسروان، والإثنتان "مسيحيّتان"، بالنفايات. وموقف ثالث هو استغلال مطالب الناس و"الحراكات المدنية". طبعاً للشيخ سامي الحق في الطموح لكن عليه أن يتبصّر ويقرّر ما إذا كان يريد أن يكون سامي الأوّل أم بشير الثاني الذي يقول كثيرون إنه يقلِّده. فبشير لا تعرفه الأجيال الجديدة وهو ذكرى الآن. والتاريخ هو الحكم، وهذه نصيحة مٌحبّ.
ثالثاً، يُلاحَظ أن تصعيد عون قد لا يتمكّن أحد من ضبطه بما في ذلك حليفه "ضابط الكل" "حزب الله". فهل يشلّ ذلك الدولة نهائيّاً بكل مؤسّساتها ويُدخل البلاد في نفق "المؤتمر التأسيسي"؟ وهل يرى تياره ثم حليفه مصلحة لهما في ذلك؟ وهل يُدرك أن إنهاء الشلل سيتزامن مع حلول لسوريا وفيها لا تبدو في الأفق الآن؟ وهل يعيد التصعيد المذكور وخصوصاً بعد التحالف مع "القوّات" الصراع المسيحي – السنّي فيهدأ الصراع السنّي – الشيعي ثم نعود إلى الصراع المسيحي – المسلم؟ في أي حال، على المصعّدين أن يدركوا عجزهم عن التحكّم بمسار التطوّرات مستقبلاً. ففي اجتماع بين زعيم سنّي كبير راحل وزعيم شيعي كبير بدوره طرح الأوّل تولّي السنّة رئاسة الجمهوريّة مع صلاحيّات، والشيعة رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء حيث السلطة التنفيذيّة، والمسيحيّون (الموارنة) رئاسة المجلس. فكان جوابه: "هذا يستوجب تعديلاً للطائف. فهل ذلك ممكن؟"، ردّ صاحب الاقتراح مبتسماً: "من عمل "الطائف" يستطيع أن يُعدّله".
رابعاً، يُلاحَظ أن البطريرك الماروني بشارة الراعي أُسقِط في يده في موضوع الرئاسة. فهو لا يمتلك إلّا البيانات والمواقف الإعلاميّة التي لا يستجيب لها أحد. علماً أنّه بموقعه هو الذي كرّس "أهليّة" الأقوياء الموارنة الأربعة لرئاسة الجمهوريّة مستجيباً لشهواتهم وحارماً الآخرين المستحقّين.
أختم السلسلة بتعليق على "الأقوياء الأربعة" لمواطن زغرتاوي عادي قاله أمام صديق بلهجته التي أُحب لأنّها لهجة "المرحومة أمّي" هو الآتي: "المرشّحون الموارنة الأربعة للرئاسة أقوياء فعلاً. لكن كل واحد منهم في جبّانة بِرَقْبتو ومن أَهْلو".