توحّد المسيحيّون بعد انشقاق مسيحيّي الشمال عنهم ومارسوا وحدتهم عسكريّاً وسياسيّاً حتى انتخاب النائب أمين الجميّل رئيساً للجمهوريّة. من يومها اختلف أبناء "البيت" الواحد. فهو أراد تصفية الحسابات مع "القوّات"، و"القوّات" مرّت في مرحلة انعدام وزن بعد غياب "مؤسّسها" وبسبب اختلافات قادتها على السلطة داخلها، وبسبب نجاح سوريا الأسد في استمالة (الراحل) إيلي حبيقة. وفي أثناء رئاسته اقْتَتَلَ "القواتيّون". وربح سمير جعجع بسبب الموقف السلبي لأمين من "الاتّفاق الثلاثي" الذي وقّعه حبيقة مع الزعيمين نبيه برّي ووليد جنبلاط برعاية دمشق، وبسبب تنفيذ قائد الجيش العماد ميشال عون تعليمات الرئيس، كما بسبب عدم رضى واشنطن في حينه عن الاتّفاق. وفي أثناء رئاسته أيضاً اندلعت حرب الجبل بين الدروز والمسيحيّين. وكان السبب الأوّل لها استفزاز بشير الدروز بإرسال مقاتليه إلى قراهم. وكان السبب الثاني تهاون الرئيس الجميّل في معالجة هذا الموضوع أو ربّما عدم قدرته على ذلك. أمّا السبب الثالث والأهمّ فكان قرار إسرائيل معاقبته على عدم توقيعه اتّفاق 17 أيار ومعاقبة "القوّات" لإخفاقهم في فرض التوقيع، بل معاقبة المسيحيّين عموماً لأنّهم لا "يُؤتمنون". ولا تزال إسرائيل على تقويمها هذا لهم. نفّذت العقاب بزيادة شحن الدروز الذين يتمتّعون بإحساس عالٍ بالكرامة ويرفضون الذل والقهر، وبافتعال الحوادث بينهم وبين "القوّات" والمسيحيّين. ولم تعترض على التدخّل الواسع لسوريا والفلسطينيّين دعماً للدروز عندما وقعت الحرب. وكانت نتيجتها تهجير مسيحيّي الجبل أو معظمهم. لكنّهم توحّدوا موقّتاً قبل ذلك بسبب رئاسة الجمهوريّة. فأميركا والأسد اتّفقا على "ترئيس" النائب مخايل الضاهر، وكلّفا موفد الأولى ريتشارد مورفي إبلاغ قياداتهم ذلك بعد تحذيره الشهير "إمّا الضاهر وإمّا الفوضى". فالتقى في بكركي وبرعاية سيّدها البطريرك صفير العماد عون وجعجع ورفضوا الضاهر. وتسبّب ذلك، مع فشل مسعى التجديد الذي قام به الجميّل مع الأسد، في فراغ مُلئ نظريّاً بتحويل المجلس العسكري حكومة برئاسة عون مهمّتها إجراء إنتخابات رئاسيّة. لكن خطوته قَسمت البلد، المقسّم جغرافياً، حكومياً. إذ حكم "الشرقيّة" مسيحيّو الحكومة وعددهم ثلاثة، وحكم الثانية رئيس الحكومة سليم الحص مع معظم أعضائها. والأدهى من ذلك أن وحدة المسيحيّين المُشار إليها كان هدفها التعطيل بدليل الحرب التي شنّها عون على المسلمين وحلفائهم بهدف "تحرير لبنان" من سوريا، ثم الحرب الأهليّة التي نشبت بينه وبين "القوّات" التي حاول توظيفها لإقناع الأسد بترئيسه لبنان. لكنّه أخفق في الحربَيْن وتدمّرت المنطقة المسيحيّة، ولاحقاً تسبّب عناده ورفضه "الطائف" بهزيمة ساحقة للمسيحيّين في 13 تشرين الأول عام 1990، إذ أنهت قوّات سوريا تمرّده بموافقة أميركيّة وعربيّة، واحتلّت وزارة الدفاع واستولت على "ملفّات لبنان" فيه وسيطر الأسد عليه بكليّته. أمّا ما حصل بعد انتهاء الحروب عام 1990 على الصعيد المسيحي فمعروف. الأفرقاء المسيحيّون كلّهم ساروا بالطائف ووافقوا عليه باستثناء عون طبعاً. لكن ذلك لم ينفعهم، ليس فقط بسبب الأهداف الفعليّة لسوريّا وربّما للمسلمين، بل أيضاً بسبب عدم حكمتهم. فمقاطعتهم أول انتخابات بعد الحرب كانت خطأً استراتيجياً إذ رافقتها استقالة عمليّة من مؤسّسات الدولة بالاعتكاف عن الانخراط فيها. وخلق ذلك فراغاً يستحيل استمراره فملأه الآخرون، وإصرار "قوّات" جعجع، التي دفعت ثمن "الطائف" دماً، على أن تكون الممثّل الوحيد لمسيحيّي كفرشيما – المدفون أخرجه منه عمليّاً. وتسبّب ذلك لاحقاً باعتقال جعجع لاتّهامه بتفجير كنيسة "سيدة النجاة" عام 1994 وبإخراج "قوّاته" من الساحة. علماً أن هناك اقتناعاً مسيحيّاً شبه عام وربّما مسلماً بأن العملية "فُبركت" للتخلّص منه.
أمّا الكتائب، وبعد وفاة رئيسه جورج سعادة، فدخل مرحلة تدجين سوري فعلي لم يخرج منها إلّا بعد تصدّي الشيخ بيار حفيد مؤسّسه لاستعادته. ونجح في ذلك. لكنّه لم يشفَ حتى الآن من آثار الحقبة السابقة بحروبها وبسلمها "السوري". بقي عون. فهو أسّس تيّاره في المنفى. ونَشط مناصروه في لبنان ضد سوريا والنظام الذي أقامته فيه. كما نَشط آخرون من "القوّات" وغيرهم، لكنّهم لم يغيّروا شيئاً. إذ استمرّت سوريا حاكمة بواسطة المسلمين سنّة وشيعة رغم الإنزعاج السنّي أحياناً، ومسيحيّي الشمال بزعامة فرنجية الحفيد سليمان وعدد من المسيحيّين المستقلّين والحزبيّين.
ماذا عن المسيحيّين بعد خروج سوريا عسكريّاً فقط من لبنان عام 2005؟