قبل الحديث عن المسيحيّين خلال الحروب بين 1975 و1990 لا بدّ من الإشارة إلى أن الموارنة كانوا قادتهم ربما لأنّهم أكثريّة بنسبة غير كبيرة، رغم وجود شخصيّات وزعامات مهمّة أرثوذكسيّة وكاثوليكيّة. ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّهم توحّدوا فيما سمّي "الحلف الثلاثي" وخاضوا معركة انتخابيّة قاسية مع "الشهابيّين" عام 1968 الذين كان يتزّعمهم رسميّاً الرئيس شارل حلو وفعليّاً ضباط "المكتب الثاني" في الجيش. وقيل يومها أن حلو لم يكن ممانعاً معركة كهذه ولا في الربح الذي حقّقه المُتحالفون. طبعاً تحالف بعدها زعماء مسلمون معهم وخاضعوا معركة رئاسة الجمهوريّة عام 1970 بهدف تخليص اللبنانيّين من "المكتب الثاني" وربحوها، ثم ضربوه من دون أن ينتبهوا إلى ضرورة المحافظة على المؤسّسة العسكريّة وأجهزتها الأمنيّة في وقت كان الوجود الفلسطيني في لبنان ينظّم نفسه عسكرياً، ويعدّ بالتعاون مع سوريا لتحالفات مع بعض "شعوبه"، وذلك بعد قرار "منظّمة التحرير" بزعامة عرفات تحويل لبنان قاعدة انطلاق لفدائيّيها ضد إسرائيل ورضى الدول العربيّة بذلك بعد هزيمة جيوشها النظاميّة أمامها. ثم "انْفَخَت" الدفّ وتفرّق "العشّاق" أي "الحلف الثلاثي" المسيحي كما دبّت الخلافات داخل الفريق المسلم – المسيحي الذي جعل حماية الديموقراطيّة شعاراً له. وحصل ما هو معروف من استقطاب فلسطيني للمسلمين وتعاون مسيحي للوقوف في وجههم منعاً لتحوّل لبنان فلسطين موقّتة أو بديلة، ولتحصيل مسلميه حقوقهم في الدولة.
ماذا عن المسيحيّين في بداية الحرب؟
كانت لزعاماتهم وفي مقدّمها الراحلون الرئيس سليمان فرنجية والرئيس كميل شمعون ورئيس الكتائب الشيخ بيار الجميّل موقف واحد في إطار سياسي واحد هو "الجبهة اللبنانيّة". والوحيد من بينها الذي بقي خارج هذا الاجماع كان (الراحل) العميد ريمون إدّه الذي تميّز بِبُعد نظر وطني، فرفض الاشتراك في الحرب وبقي يتواصل مع الزعامات الإسلاميّة من أجل وقفها، وذلك رغم تمسّكه بثوابت مسيحيّة غير طائفيّة.
أمّا المسيحيّون غير الموارنة فساروا مع "الجبهة" لاقتناعهم بأن الخطر عليهم واحد. وكانت ميليشياتهم تضم الكثيرين من هؤلاء. علماً أن محاولات جرت في أثناء الحرب لفصلهم عن الموارنة من خلال التمييز في المعاملة على "الحواجز". لكنّها فشلت. واستمر فشلها رغم اقتناع بعض قادة هؤلاء أن الزعامات المسيحيّة أي المارونيّة لم تكن حكيمة بما فيه الكفاية في مواجهتها أخطاراً حقيقيّة، ورغم محاولة البعض لاحقاً التميّز للتقرّب من المنتصر المسلم – السوري بعد الحرب. وهي فشلت أيضاً.
وحدة المسيحيّين المُشار إليها تعرّضت إلى امتحانات صعبة لكنّها صمدت موقّتاً. كان أبرزها مبادرة حزب الكتائب الأكثر تنظيماً سياسيّاً وعسكريّاً إلى "توحيد البندقية المسيحيّة" على يد الشيخ (الراحل) بشير الجميّل الذي كان بدأ نجمه يَسْطع في سماء حزبه وفي سماء مسيحيّي لبنان. لكن التوحيد كان بالقوّة وليس بالحوار. وكان الهدف الأول "النمور" أي القوّة العسكريّة لـ"حزب الوطنيّين الأحرار" الذي أسّسه الرئيس (الراحل) كميل شمعون. لكن الأخير الحكيم و"العتيق" والمحنّك بلع الإهانة مبرّراً ذلك بحرصه على وحدة المسيحيّين في حرب مصيريّة. ثم استخدم بشير "النصر" لتوحيد التنظيمات الأخرى الأصغر حجماً وقوّة وجمعها في إطار سمّاه "القوّات اللبنانيّة". واستمرّت هذه الهيئة جزءاً من الكتائب. إلّا أن الوحدة المسيحيّية لم تكن ترافقها وحدة موقف داخل حزب الكتائب وتحديداً داخل عائلة المؤسّس بيار الجميّل. فإبنه البكر الذي كان دخل مجلس النواب عضواً قبل الحرب بسنوات قليلة، الشيخ أمين، كان يستعد لاحتلال الموقع السياسي لوالده. لكنّه رأى أن تطوّرات الحرب بدأت تجعل من شقيقه الأصغر بشير زعيماً على مستوى مسيحي عام. فلم ينشرح هو الذي كانت له "ميليشياه" في المتن. وأدّى ذلك إلى تمايز وأحياناً إلى اختلاف بينهما. لكن "الغلبة" كانت للأصغر بسبب جرأته وتهوّره وصراحته ووضوح سياسته المسيحيّة والمسلمة والفلسطينيّة، وبسبب نسجه علاقات مع إسرائيل ودول أخرى بموافقة أعلى الهيئات في حزبه، وبسبب شعبيّته التي وصلت إلى لبنان "المسيحي" كلّه، وأخيراً بسبب وجود الوالد وميله إلى بشير أو ربّما إقتناعه بما يفعله. إلى ذلك، ظهر تمايز أو اختلاف آخر داخل الميليشيا الكتائبيّة – القواتيّة، بين رئيسها بشير وقائد الشمال فيها سمير جعجع، أسبابه كثيرة. لكنّه استمر مضبوطاً حتى اغتيال "الرئيس" بشير عام 1982.
هل استمرّت الوحدة السياسيّة والعسكريّة بين "قوّات" بشير وقوّات الزعامات المسيحيّة الأخرى وداخلها بعد "رحيله"؟