هل يتخلّى الرئيس سعد الحريري عن شعار "لبنان أولاً" الذي رفعته ما سُمّي "ثورة الأرز" على الهيمنة العسكرية السياسية والأمنية السورية في لبنان بواسطة قواتها وحلفائها في آن واحد؟ هذا السؤال الذي يطرحه الكثيرون هذه الأيام ربما لم يعد في محله في رأي كثيرين من اللبنانيين. فهو مال قبل نحو سنتين الى تطبيع العلاقة مع العماد ميشال عون و"تياره الوطني الحر" وتالياً الى ترشيحه الى رئاسة الجمهورية في حال أسفر الحوار معه عن نتيجة. والأخير حليف قوي لـ"حزب الله" وإيران الاسلامية والرئيس السوري بشار الأسد الذين يتهمهم أصحاب شعار "لبنان أولاً" بتبني شعارات يأتي لبنان في آخرها. وهو رشّح قبل أشهر زعيم "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية الذي يفاخر ومن زمان بأنه مع "الخط" الوطني والقومي الذي رسمه الرئيس الراحل حافظ الأسد وأنه لن يحيد عنه أبداً، والذي يعتبر علاقته مع وارثه في الرئاسة ابنه بشار علاقة أخوّة لا صداقة فقط أو تحالف. ويضمّ هذا "الخط" "حزب الله" وإيران الاسلامية. والجهات الثلاث هذه "ليس لبنان أولاً" في أولوية شعاراتها، على الأقل بالطريقة التي يفهمه فيها المسيحيون ومعهم حلفاؤهم المسلمون في فريق 14 آذار، أي السنّة والدروز. وهو (أي الحريري) يفاوض حالياً عبر قريبين منه في تياره "المستقبل" وفي الحكومة وفي عائلته العماد عون حول الرئاسة ومقابلها الذي هو رئاسة الحكومة ويتمسّك في الوقت نفسه بترشيحه فرنجية.
طبعاً لا يرمي هذا الكلام الى الايحاء بأنه صار أقرب الى فريق 8 آذار بسياسته وتوجهاته، علماً أن أي اتهام من هذا القبيل له في غير محله. بل يرمي الى الإشارة الى أمرين مهمّين. الأول التخبّط الذي يشعر به جرّاء أوضاعه الخاصة والاقليمية والمحلية الصعبة وعجزه حتى الآن عن ترتيبها. والثاني عدم جواز احتكار فريق سياسي أو طائفة أو مذهب أو دين شعار "لبنان أولاً". ذلك أن لكل من هؤلاء لبنانه الذي يعمل له. واتفاق قسم من هؤلاء على لبنان ما من حيث المبدأ وليس من حيث التفاصيل التي "يكمن فيها الشيطان"، كما يقول المثل، لا يعني أن "لبنانهم" هو الصحّ ولبنان الآخرين خطأ. وحده اللبنان الذي تُجمع عليه "شعوب" لبنان بالمبدأ وبالتفاصيل يكون الصحّ. واللبنانيون لا يزالون بعيدين من ذلك ولا سيما بعدما صارت الشيعية والسنّية والدرزية والمسيحية هي المحرّك الأساسي لهم لا الوطنية ولا القومية، وبعدما تحوّلت شعارات الوطنية اللبنانية الصرفة ومقاومة إسرائيل، والممانعة في وجه أميركا والصهيونية، والحرية والديموقراطية والاشتراكية، مجرّد أغطية للشعارات الفعلية.
انطلاقاً من ذلك لم تعد "للبنان أولاً" الأهمية التي كانت له في بداية الانتفاضة على سوريا فيه وعلى النظام الذي استغل اتفاق الطائف لإقامته وحكم اللبنانيين به. ولا يُسأل عن ذلك المسلمون وحدهم بل أيضاً المسيحيون سواء الذين منهم مع سوريا وايران أولاً أو مع السعودية وتركيا وأميركا والغرب أولاً. فالذين اخترعوا ما سمي "قانون الانتخاب الارثوذكسي" كان همهم المسيحيين أولاً، والذين ينتظرون الفيديرالية في المنطقة بفارغ صبر اعتقاداً منهم أنها ستشملهم، لا يشبه لبنانهم لبنان الذين يرفضونها حتى وإن أخفوها بالحديث عن سعيهم الى لامركزية واسعة جداً. والذين يتحدثون ليل نهار وبحدة وصوت مرتفع عن استعادة حقوق المسيحيين وعن صحة تمثيلهم في مجلس النواب والحكومة وبتحدٍ لـ"الشعوب" الأخرى في لبنان، إنما يؤكدون لها أقلوية المسيحيين ويهيّجونها عليهم. وانطلاقاً من ذلك أيضاً يمكن القول إن الوحدة عند "الشعب" السنّي في لبنان موجودة ولكن بالمعنى السلبي، فهي ضد الآخر الشيعي المرتبط بالسوري والايراني المشابهيْن له في المذهب. لكنها غير فاعلة لأن الزعامة التي استقطبت غالبيته منذ سطوع نجم الحريري الشهيد ضعفت بعده كثيراً لأسباب متنوّعة وانقسمت قياداتها وانشقّت عنها زعامات أخرى وابتعدت عنها جمعيات دينية. ويتعرّض هذا "الشعب" الآن الى استقطاب واسع من المتنافسين بل المتقاتلين عليه من سياسييه وزعمائه ومن الدول العربية والاسلامية السنّية. وانعكاسات ذلك خطيرة، علماً أن ما جاء في بداية الحديث عن السنّة قبل أيام على لسان الرئيس الراحل تقي الدين الصلح يبقى صحيحاً مهما طال الزمن. وهذا أمر يجب ألّا ينساه المسيحيون والشيعة والدروز.
ماذا عن المسيحيين وأوضاعهم ودورهم السلبي والايجابي في كل ما يجري؟ وما هو مستقبلهم في لبنان؟ بل هل لهم مستقبل فيه؟