أولاً: حركة "أمل"، أول ميليشيا شيعية..
كلما هلّت ذكرى غياب الإمام موسى الصدر في الواحد والثلاثين من آب من كل عام ،وعلى مدى ثمانية وثلاثين سنة متتالية، يتبارى اللبنانيون (ومعظمهم شيعة) في الاطناب بمزايا الإمام الشخصية، وعظمته وتقواه، ووطنيته، وحُبه للبنان ومؤسساته، وحرصه على السلم الأهلي، والوحدة الوطنية، ويتحسّرون على أيامه المجيدة، ويلعنون ساعة غيابه، ويصفونها بالمؤامرة الخبيثة، تارة ضد الشيعة وطورا ضد لبنان، ويقفزون فوق حقائق أصبحت واقعاً دامغا، أو يتناسونها، فالصدر كان شاهداً على ولادة أول ميليشيا شيعية من رحم حركة المحرومين، في لحظة اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية، وهذا حدث طبيعي في حينه، ذلك أنّ البلد كانت تملؤه الميليشيات يميناً ويساراً، فضلاً عن الميليشيات الفلسطينية، إلاّ أنّ ميليشيا الصدر سرعان ما وقعت في أحضان سلطة الوصاية السورية على لبنان، وهذا ما عجّل في إخفاء الصدر لتسهيل القيام بالمهمّات التي ستُكلّف بها حركة أمل، ابتداء من الاشتباكات المتقطعة والمحدودة مع أحزاب الحركة الوطنية، وصولاً إلى الحروب المفتوحة مع المخيمات والفصائل الفلسطينية، ودفعت الطائفة الشيعية دماءً غزيرة وعزيزة في هذه الصراعات، حتى هبّت معارك السيطرة على الجنوب اللبناني مع حزب الله الذي نشأ من رحم الحركة وعلى تخومها، فاستعار شعاراتها، وزاود على قياداتها بالإلتزام الديني والخُلقي والنضالي، وقام بعملية زحزحتها عن مواقعها الجنوبية ليتصدر واجهة مقاومة إسرائيل.
حزب الله، المولود الشرعي..
لولا وجود حركة الصدر، بزعامة الرئيس بري، لما تمكّن الإيرانيون من إنشاء حزب الله بالسرعة الفائقة والكفاءة التامة، فالطائفة الشيعية كانت مُسلّحة ومُنظّمة غداة انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فتمّ استدخال الحركة بعمليات دقيقة، أين منها العمليات الجراحية الدقيقة، فقد انشقّ قياديون من حركة أمل بسرعة فائقة عندما لاحت بوادر الإغراءات المالية الوفيرة، وتبعهم ما تبقى من قيادات المنظمات الطلابية التي كان يرعاها ياسر عرفات على تخوم الحركة الوطنية اللبنانية. وظلت حركة أمل ولفترة مديدة الخزان البشري الذي يرفد حزب الله بالكوادر والعناصر، وقد تجد اليوم من يرى أنّ هذه من بركات الإمام الصدر واستمرار نهجه، في حين يراها البعض من أبلغ الإساءات التي تركها في جسم الطائفة الشيعية.
ثالثاً: القيادة التاريخية للرئيس بري..
تربّع الرئيس بري على زعامة الحركة بعد غياب الصدر، وغدا خادماً اميناً لسلطة الوصاية السورية، فانغمس في الصراعات التي أوكلها إليه وأشرنا إليها فيما سبق، إلاّ أنّ ما يُحسبُ له ، محاولاته المضنية لمنع التمدّد الإيراني في جنوب لبنان، وخاضت الثنائية الشيعية أكثر المواجهات الدامية مأساوية وخسائراً، قبل أن تنتهي باستسلام الحركة وتسليمها بالأمر الواقع، فبسط حزب الله سيطرته على جنوب لبنان، ومن ثمّ على ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع من جنوبه حتى شماله، وانصرف بعدها الرئيس بري بعد توليه رئاسة مجلس النواب، واحتكاره المناصب الوزارية والوظائف العامة العائدة للطائفة، وانخرط في بناء السلطة بعد اتفاق الطائف مطالبا بحُصّته من الغنيمة، وكان، وما يزال، بارعاً في اقتناص الفرص، ووضع اليد على المغانم المتاحة، مُوزّعاً إياها على المقاتلين الذين قاتلوا معه، فنمت وربت حتى أصبحت على ما يقال ثروة فلكية، وودّع الحرمان، ورفعهُ عن حاشيته وبطانته ومُناصريه، وما يزال حتى اليوم يقف في الحادي والثلاثين من شهر آب، ليغرُف من معين الذكرى، مؤنةً للأيام القادمة، وما زالت جموع غفيرة تسير على نهج الإمام، وتُوالي نائب الإمام وحامل الأمانة تتقاطر لإحياء الذكرى، رغم الزمن وتراكم الخيبات.