عندما يُغرق «حزب الله» نفسه في حرب هو نفسه لا يعرف متى ستكون نهايتها وعلى أي شاكلة، وعندما يُصبح عاجزاً عن ترجمة وعوده خصوصاً في ما يتعلق بتحرير الأسرى، وعندما يُصبح في خندق واحد مع الإيراني الروسي، أحد أبرز ضُبّاط إيقاع الحرب السورية إلى جانب الأميركي والإسرائيلي، وعندما يعجز عن منع الموت عن عناصره وكوادره أو حتّى حمايتهم، عندها يُصبح من حق جمهوره عليه مُساءلته، عن جدوى استمراره في هذه الحرب وعن «الإنتصارات» التي سبق أن وعده بها، والأهم، السؤال عن دماء الشُبّان التي ما زالت تنزف موتاً.

يبدو أنه من الصعب على «حزب الله» تقبّل واقعه الجديد والذي أصبح فيه أسيراً لارتباطات ومشاريع خارجية معروفة الوجهة بشكل مكشوف وفاضح وأداة تُحركها المصالح، وذلك على عكس سنوات خلت حاول خلالها التلطي خلف شعارات وعناوين مرحلية استغلها إلى أقصى حد لإظهار نفسه على صورة منقذ العالم «المستضعف»، من وراء أقنعة ملونة وبمقاسات متعددة على رأسها «المقاومة» التي أضاعها يوم قرر خوض لعبة الإرتهانات والرهانات، على طاولات البازارات السياسية بحثاً عن مكاسب يُمكن أن تخدم مشاريعه الديموغرافية والتوسعية، ولو على حساب دماء أبناء جلدته.

حتّى اليوم، لا تزال صرخات أهالي عناصر «حزب الله» الذين يسقطون في سوريا، محصورة في مكان ما وغير مسموح لها بالظهور إلى العلن، وبالتالي يصعب إحصاؤها بشكل دقيق طالما هناك تعتيم مُفتعل معطوف على «التكليف الشرعي» والواجب «الجهادي» بشكل رئيسي، وعلى الخوف من مصير مجهول يُمكن أن يضع أصحاب الدم، في خانة العمالة أو التهرّب من المسؤولية أو «الواجبين« معاً، وذلك في حال تجاوزت صرخاتهم الحد المسموح به. والحد هنا، لا يتجاوز «اللطم» أو البكاء عند الأضرحة أو الإكتفاء بالتعبير عن حالات الغضب، داخل غرف المنزل، وعادة ما تكون غرفة «الشهيد». وفي هذه الحالة، يُصبح الاحتفاظ بالبزة العسكرية والسلاح بالإضافة إلى الوصية المكتوبة أو «المُسجّلة»، هو الأمر الوحيد المسموح به، فعلّهم قد ينتقلون في مرحلة لاحقة، إلى الإبن الأكبر أو الشقيق الأصغر.

تناقلت وسائل إعلامية مُختلفة خلال اليومين الماضيين، صرخات أطلقها اهالي عناصر «حزب الله» الذين يمضون إلى الموت في سوريا، إمّا ترهيباً وإما ترغيباً. هذه الصرخات ما كانت لتخرج عن صمتها، لولا انقشاع المشروع الذي ألزم الحزب نفسه به، فكانت العاقبة خسارة ما لا يقل عن الفين وخمسمائة عنصر خلال خمسة اعوام تقريباً، وجرح ما يُقارب الأربعة آلاف. والمشروع بحسب هؤلاء، يتجاوز «التكفيريين» و»الإرهابيين» وحتّى «الواجب الجهادي»، فهو يقوم على طمع بتوسّع «ديموغرافي» بدأ في «القصير» واستمر في «الزبداني» و»مضايا» و»درايّا» بالأمس، ولاحقاً، حيّ «الوعر» و»مُعضمية الشام» وصولاً إلى إقامة «سوريا المُفيدة»، التي ستُكرّس إحتلالاً جديداً، سبق لـ»حزب الله» أن عانى منه على يد الإسرائيلي. وهذا الإحتلال سيُقرّ واقعاً مذهبياً مبنيّاً على الأحقاد والنزاعات في المستقبل، بين الطائفة الشيعية من جهة والشعب السوري من جهة اخرى، وكانت أولى بوادره خلال عملية التبادل المذهبية التي اعترف بها السيد حسن نصرالله تحت عنوان: «الزبداني» مُقابل «الفوعة» و»كفريّا».

اليوم شاء «حزب الله» أم أبى، فهو يخوض معارك بريّة إلى جانب القوّات الروسية والإيرانية والعراقية والأفغانية في سوريا، كميليشيا مسلحة شاركت في عمليات قتل الشعب السوري وتهجيره وتدمير بلده وتجزئة أراضيه واقتطاع قسم منها لصالحه. هذا الأمر يجعله شريكاً للإسرائيلي سواء في السر أو العلن أو أقله حليف الحليف، كون هذا الأخير هو من يُنسّق مع الروسي الطلعات الجوية فوق سوريا التي تتزامن مع تحركات «حزب الله» وبقيّة حلفائه على الأرض. وفي هذه الحالة، يكون الحزب قد باع صرخات طالبت لمدة تزيد على الثلاثين عاماً بزوال إسرائيل، مُقابل «عقود» وهميّة أجبر خلالها أصحاب الأرض، على التخلّي عن أرزاقهم، تحت ضغط الرصاص والقذائف وتحت التهديد بلقمة العيش.

لم يعد الموت بالنسبة إلى أهالي عناصر «حزب الله« وحتّى وجمهوره، عامل قلق ولا سبباً رئيسيّاً لأحزانهم وأوجاعهم بعدما تحوّل هذا الامر، إلى خيار أوحد يرسم بينهم وبين الحياة حدّاً فاصلاً يمنعهم من البوح بأسرار تؤلم أيامهم وتكاد تلتف حول رقابهم. أناسٌ لا يجدون غير الحزن والبكاء طريقاً يُعيدهم إلى الذات ليبحثوا في داخلها عن فلذات أكباد كانوا بالأمس بينهم يتلمسون وجوههم ويتحسسون وجوههم ووجودهم. أبناء رحلوا ولن يعودوا سوى في عتمات الليل، بعد أن ينام الجميع، وتبقى الصور المُعلقة على جدران الغرف، الشاهدة الوحيدة على وجع يكاد أن يُخرجها عن صمتها، لكن رغماً عنها، تُقرّر التزام السكون وعدم البوح بأسرار يُمكن أن تُغيّر مسارات وادعاءات، وأن تفضح كل «التكاليف»، فيما لو خرجت عن صمتها.

علي الحسيني